تصدير الكهرباء.. صراع الطاقة المرتقب بين مصر وإثيوبيا
القاهرة : محمد العربي
لاح الظلام في مصر فجأة، وغرقت البلاد بمَن فيها في عتمة ممتدة رافقت يومهم الثقيل إلى الليل، ذلك البلد الذي لا تهدأ أنواره أبدا، تعطَّل فيه كل ما له صلة بالطاقة؛ فتوقَّفت حركة المترو، وسكن ضجيج المصانع، وأُغلقت أبواب المخابز، وتضرَّرت شبكات الاتصالات. انقطعت الكهرباء عن الجميع، ولم يرفق حر الصيف بأحد، وبينما بحث الجميع عن تفسير لصوت السلطة الغائب، لم تُقدِّم الحكومة سوى بيان في صباح اليوم التالي يقول إن مقدار العجز المتوقَّع في إنتاج الكهرباء خلال الفترة المقبلة يتجاوز 3200 ميجاوات يوميا، ومن ثمَّ فإن الظلام الذي عايشه المصريون خلال ليلتهم الماضية لن يكون الأخير.
لا يسع مَن حضر تلك الأيام أن ينساها بسهولة، لكن الليلة ليست دوما أشبه بالبارحة، فمصر الأمس التي صارعت الظلام حقَّقت اكتفاءها الذاتي من الكهرباء في غضون ستة أعوام، بل وتدخُل لتوِّها صراعا مُحتدِما على تصدير الطاقة. وبينما تُعِدُّ القاهرة نفسها لتصير مركزا إقليميا لتصدير الكهرباء إلى أفريقيا وأوروبا، يواجهها مُنافس شرس في السوق الأفريقي المُتعطِّش للكهرباء، وكما هو مُتوقَّع فإن هذا المنافس ليس سوى إثيوبيا، وبواسطة مشروع سد النهضة نفسه الذي يستهدف توليد ستة آلاف ميجاوات من الطاقة الكهربائية سنويا.
ليس الماء وحده إذن هو الذي يضع علاقات البلدين على مسار تنافس وصراع جيوسياسي، بل وملف الطاقة الذي يبدو أن أبعاده الكاملة لم تتكشَّف بعد. يُشكِّل الاستثمار في قطاع الكهرباء أحد العوامل الرئيسة التي انعكست إيجابا بتوديع مصر للظلام. وبحسب بيانات رسمية صادرة عن وزارة الكهرباء المصرية، بلغ حجم الاستثمار السنوي في شبكات توزيع الكهرباء قبل عام 2014 ما يقرب من مليار و100 مليون جنيه (70.1 مليون دولار)، لكن أيام الظلام المتكررة آنذاك دفعت الحكومة لرفع الاستثمارات فى تطوير شبكات التوزيع وصولا إلى 11 مليار جنيه (701 مليون دولار)، وهو ما يُمثِّل 11 ضعف قيمة الاستثمارات بين عامَيْ 2003-2014.
وتقول الحكومة إن خطة تطوير قطاع الكهرباء كلَّفتها حتى آخر العام الماضي 2020 نحو 515 مليار جنيه (32.8 مليار دولار)، فبدلا من الاكتفاء بتنفيذ الخطة العاجلة التي قضت بإضافة 13 ألف ميجاوات لمنع انقطاع التيار عام 2014، واصلت مصر إنتاج الكهرباء حتى أصبحت تمتلك حاليا 17 ألف ميجاوات من الاحتياطي يوميا، وذلك بعد تحقيقها الاكتفاء الذاتي من الكهرباء منذ عام 2015.
تكشف البيانات الرسمية الأخيرة في التقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر عام 2019 أن إجمالى إنتاج الطاقة الكهربائية بلغ نحو 58.35 ألف ميجاوات، بينما يبلغ حجم الاستهلاك الحالي نحو 30 ألف ميجاوات فقط في أوقات الذروة، ما يعني وجود فائض من الطاقة المولدة يزداد اتساعا مع انخفاض الاستهلاك في الشتاء. هذا التحوُّل السريع في مسار الطاقة بمصر من دولة تواجه عجزا يوميا إلى دولة تمتلك فائضا محا تاريخ الظلام في سنوات معدودات، ويدفع مصر الآن نحو استغلال تموضعها الجغرافي المركزي، والبدء في إعداد خطة طموحة لتصبح مركزا إقليميا لتصدير الكهرباء باستثمارات تبلغ تريليون جنيه، وهي رؤية تثق القاهرة بنجاحها كونها تتوسَّط دولا عديدة مُتعطِّشة للطاقة، وأهم تلك الدول بالطبع السودان، المُقبِل على تحوُّل سياسي واقتصادي قد يزيد احتياجاته من الطاقة، في وقت تسعى فيه القاهرة لتعزيز روابطها به على المستويات كافة، ومنها البنية التحتية.
الخطة المصرية لوضع قطاع الكهرباء على طريق التصدير باتت تحظى بثقة أكبر لدى الجهات الدولية المُتشكِّكة سابقا في أداء الاقتصاد المصري، ومنها البنك الدولي الذي ساهم لاحقا في تمويل مشروعات بالقطاع. على سبيل المثال، أعلنت شركة الأبحاث “فيتش سولوشنز”، التابعة لوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، أن مصر ستكون واحدة من أسرع أسواق الطاقة المتجددة غير الكهرومائية نموا في المنطقة خلال العقد الممتد حتى 2031.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تعاقدت مصر أثناء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لألمانيا عام 2015 مع شركة “سيمنز” الألمانية لتشييد محطات إنتاج طاقة بتكلفة ستة مليارات يورو (7 مليارات دولار). كما تهدف لإنشاء ثلاث محطات توليد عملاقة تعمل بالغاز في العاصمة الإدارية والبرلس وبني سويف، تُعَدُّ الأضخم في الشرق الأوسط حتى الآن، بطاقة إنتاجية تبلغ 14400 ميجاوات.
وبحسب صحيفة “أخبار اليوم” الحكومية، ستُوفِّر المحطات مليارا و300 مليون جنيه (83 مليون دولار) نتيجة توفير استهلاك الوقود، كما ستُغطِّي 50% من الاحتياجات المحلية. تسعى الحكومة المصرية أيضا للاستثمار في الطاقة النظيفة، الأرخص والأوفر على المدى البعيد، التي تُغطِّي حاليا 3% فقط من احتياجات البلاد، حيث شيَّدت واحدة من أكبر محطات توليد الكهرباء بواسطة الرياح عالميا في منطقة البحر الأحمر بتكلفة 12 مليار جنيه (673 مليون دولار) وبطاقة إنتاجية تبلغ 580 ميجاوات، كما حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي وعدة مؤسسات دولية بقيمة 653 مليون دولار، لتشييد محطة طاقة شمسية عملاقة بحديقة بنبان في أسوان تناظر مساحتها خمسين ملعبا لكرة قدم، وبقدرة إنتاجية تصل إلى 1465 ميجاوات، ويمكن أن ترتفع إلى 1800، أي ما يعادل نحو 90% مما ينتجه السد العالي. وفي نهاية المطاف، تسعى مصر إلى تلبية 40% من احتياجاتها من الطاقة عبر مصادر مُتجدِّدة بحلول عام 2035.