عثمان ميرغني يتحدث عن الاتفاق الاطاري ويكتب “الطمع وَدَّر ما جمع
في آخر لحظة، تأجل التوقيع على الاتفاق “الإطاري!” بين قوى الحرية والتغيير والمكوِّن العسكري بالسودان، الذي كان مقررا له السبت، ربما لترتيبات بروتوكولية أكثر منها موضوعية في صلب الاتفاق، وإذا سارت الرياح بما تشتهي السفن فقد يكتمل التوقيع خلال يومين، فما المتوقع بعد ذلك؟
الاتفاق الإطاري يحمل خطوطا عريضة في قضايا تبدو من المُسَلّّمات في المشهد السياسي السوداني، وقد يكون عسيرا أن يختلف عليها أحد، مما يجعله مجرد “عربون” بالتعبير الاقتصادي، أو “خطوبة” بالمصطلحات الاجتماعية للاتفاق النهائي الذي يُعد ورقة الارتباط الحقيقية والمحك في مجمل العملية السياسية.
وبهذا الفهم فإن المكونات السياسية التي ستوقع الاتفاق مع المكون العسكري إن لم تفهم أنها في حاجة لقوة دفع من مكونات مدنية أخرى –هي ترفض الانخراط في الاتفاق الاطاري حاليا – قبل الوصول لمحطة الاتفاق النهائي، فقد تكرر الأخطاء ذاتها التي أفضت لانهيار الفترة الانتقالية على حوافر دبابات انقلاب 25 أكتوبر 2021.
قبل أسابيع، وفي جلسة تحاورية مع مسؤول أممي رفيع متصل بالشأن السوداني، سألته أن يصف لي العائق الأساسي في وصول المكونات المدنية لتوافق يخرج البلاد من أزمتها السياسية، فقال لي إن أفضل توصيف هو مثل شعبي سوداني باللغة الدارجة يقول (الطمع وَدَّر ما جَمع)، وتعني أن الطمع أضاع ما في اليد بدلا من أن يجمع المزيد..
وعلى بساطة التوصيف، إلا أنه تشخيص حقيقي لأزمة تخنق البلاد، فهو يقصد أن ملخص العملية السياسية الجارية حاليا هو سباق وطمع في السلطة أكثر من كونه تحقيقا لغايات وطنية عليا.. هذا السباق على السلطة يجعل نقاط الفوز محسوبة بما يحققه كل فريق ضد الآخر، وليس مجمل العائد الذي يمكن للمكونات المدنية مجتمعة أن تحققه لصالح الوطن والمواطن.
المسافة الزمنية الفاصلة بين توقيع الاتفاق الإطاري والنهائي في حدود الأسبوعين إلى ثلاثة كأقصى تقدير، حسب تصريحات قادة قوى الحرية والتغيير، وهي أكثر من كافية لقيادة حملة قوية تستهدف توسيع دائرة المُوَقّعين على الاتفاق الإطاري، حتى إذا جاء ميقات النهائي نهض بنيانه على أوسع قاعدة سياسية مدنية توفر له استقرارا منتجا لحكومة مدنية متوافقا ومرضيا عليها، تصلح لقيادة السودان في ما تبقى من الفترة الانتقالية.
القوى السياسية الرافضة للاتفاق الإطاري تتوزع بين مجموعتين، الأولى راديكالية غير قابلة للاستجابة لأي حوار، وهي ما يُطلق عليه “تحالف التغيير الجذري الشامل”، ويتزعمها الحزب الشيوعي السوداني، وتدعو لتغيير ثوري شامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل وحتى ثقافيا، تغيير غير محدد القسمات والمعالم، وترفض أية تسوية حتى لو جاءت مبرأة من كل العيوب.
والمجموعة الثانية هي “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديموقراطية”، وتضم الحركات المسلحة الرئيسية الموقعة على اتفاق السلام بعاصمة جنوب السودان جوبا، أكتوبر 2020، إضافة لبعض الأحزاب الأخرى مثل الحزب الاتحادي الديموقراطي الأصل، والجمهوري وغيرهما.
المجموعة الثانية راغبة في الالتقاء مع قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي في منتصف المسافة بينهما، لكن يبدو أن مثل هذا اللقاء محفوف بكثير من التغابن السياسي الناتج من وقوف هذه المجموعة مع الانقلاب العسكري، بل وما صدر من بيانات تدعو لاستمرار المكون العسكري في السلطة إلى نهاية الفترة الانتقالية..
وحتى لحظات كتابة هذه السطور، فشلت آخر محاولة لجمع الطرفين بوساطة دبلوماسية عربية، إذ حضر لمكان اللقاء وفد الكتلة الديموقراطية وغاب وفد قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، وأصدر بيانا برر فيه الغياب بوجود أفراد في وفد الكتلة الديموقراطية ليسوا جزءا من العملية السياسية، حسب نص البيان، وهذا الموقف سبق أن تكرر بالتفاصيل نفسها قبل ثلاثة أشهر.
إذا لم تنجح القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري في استيعاب أكبر قدر من القوى السياسية الأخرى، خاصة “الكتلة الديموقراطية”، فإنها تضع الطوبة الأولى لبناء سد يعيق تدفق مياه الفترة الانتقالية في مجاريها، وتؤكد بذلك توصيف الدبلوماسي الأممي “الطمع وَدَّر ما جَمع”.
الاتفاق الإطاري الذي يثير الجدل حاليا ليس فيه ما يُختلف عليه، فهو مجرد إعلان مبادئ ربما قُصد به تهيئة سياسية للجان المقاومة والثوار الذين ظلوا يثابرون على الحراك الجماهيري الميداني منذ صباح 25 أكتوبر 2021 لأكثر من عام كامل ويرفعون “لاءات” ثلاثة ضد التفاوض والشراكة مع المكون العسكري، وأرجئت القضايا التي قد تمس الشعور الثوري لتكون في متن الاتفاق النهائي، وعلى رأسها بند العدالة الانتقالية، الذي قد يحمل في طياته حصانة للمكون العسكري هي محل جدل شعبي كبير.
وعلى سهولة اتخاذ قرار بالتوقيع على الاتفاق الإطاري لأي مكون سياسي لكونه اتفاق إعلان مبادئ، فإن التوقيع يمنح ميزة المشاركة في صنع الاتفاق النهائي، وهي المهمة التي تتيح لحملة الرأي المخالف ألا يكونوا خارج العملية السياسية، بل والتأثير في أجندة الاتفاق النهائي وتشكيل الحكومة ومؤسسات الفترة الانتقالية بما فيها المجلس التشريعي.
من الحكمة أن تقبل قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي الجلوس مع نظيرتها “الكتلة الديموقراطية” لتوسيع القاعدة السياسية قبل التسوية النهائية وتشكيل الحكومة، وفي حال التعنت واستمرار الرفض، فإن صافرة الحكم التي تعلن نهاية المباراة لن تسمح بركلات جزاء ترجيحية لتأكيد وحسم فوز أحد الفريقين.. وسيتحقق قول الدبلوماسي الأممي (الطمع وَدر ما جمع)..
التيار