الرؤية نيوز

صهيب حامد يكتب..هل يقفز جيشنا في حمض الكبريتيك السياسي؟

0

*?️الزاجل الإخبارية?️*

حول الأزمة السودانية (١)

توازن القوى.. هل يقفز جيشنا في حمض الكبريتيك السياسي كما قفز حميدتي؟

ريميديوس الجميلة أشهر شخصيات غابرييل ماركيز غارسيا في روايته (مائة عام من العزلة) عاشت كنسمة في أزارات متخيلة وسط واقع متحجر بماكندو المكان الذي نسج حوله ماركيز تخيلات اسطورته التي منحته مليون دولارات جائزته النوبلية قبل أربعين عاما. يحكي ماركيز كيف طارت ريميديوس في طقسية أسطورية بين ثنايا السقف القرميدي لحمام منزل أسرة بونيديا عارية كطاؤوس زاه فلم يتبقى الا خيال ذكرياتها الجميلة التي تناقلها الرواة َعلى طول ساحل الكاريبي. ترى فهل حظ ذكرى ثورتنا الديسمبرية المجيدة في روع ووجدانات الثوار السودانيين احسن حالا من تصاوير ريميديوس الجميلة بتخيلات سكان ساحل الكاريبي كما نسجها خيال ملك الفنتازيا العارم ببذخه وثراءه ؟

أن إحدى إشكاليات ثورة ديسمبر المجيدة انها حدثت وسط بلبلة انتقال عالمي غريب، نفس البلبلة التي اشتكلت على نظام الإنقاذ في أيامه الأخيرة حيث قفز المخلوع عمر البشير من وسطه الطبيعي أيديولوجيا وسياسيا ممثلا في  قطر وإيران وتركيا لخارجه ساقطا في الحلف الاقليمي القوى (الإمارات السعودية مصر) وهو وسط أشبه بحمض كبريتيك سياسي لنظام كالانقاذ فتفسخ على أثره جلد النظام وشاه مترجلا إلى مزبلة التاريخ. إذن هل امتاحت ثورة ديسمبر المجيدة من نفس الإرث؟ بالقطع فإن ابوة هذه الثورة متنازعة بين آباء تتوزعهم مشارب شتى.. يسار متطرف (جذريون شيوعيون يعانون من يتم مفرط منذانهيار جدار برلين) ويسار وسط وليبراليون وليبراليون جدد(غواصات الغرب المحظوظين) ودينيون حداثيون(الحمهوريون) وعروبيون اشتراكيون وعروبيون قوميون (وهؤلاء جميعهم حديثو عهد باليتم كالبعثيين أو قديمه كالناصريين ). عموما يبدو أن السمة المشتركة لكل آباء هذه الثورة هو اليتم السياسي، إذ أن الواقع الجيوبوليتيكي للثورة حسب مصطلح استاذنا الخاتم عدلان الشهير هو ملاط إقليمي ودولي أتاح لمجموعة من الليبراليين الجدد (neo-libralists) وهم بقايا يسار متطرف سوداني اندغم في إحدى مراحله في إطار عمل المنظمات الدولية (NGOs) والشركات العابرة (Trans-national companies ) ،اقول أتاح لهولاء الليبراليين الجدد رشف رحيق هذه الثورة لأنهم وحدهم من تمتع بأبوة  دولية نافذة امتاحوا من نفوذها لبسط سطوة ملحوظة على شئون الثورة السودانية الوليدة رغم التقاطع الحاد بين قضايا هذه الثورة ومتاع الليبرالية الجديدة وهو ما ظل باديا للعيان في التناقض البرامجي الحاد بين ما تقدمه هذه النخبة ومركزي قحت ولكن بقدرة قادر تكون الغلبة دوما للاوائل دون رد.اذن البلبلة الموروثة منذ الإنقاذ ارتدت لتصبح سمة مصائر الثورة السودانية فهي تنتمي سياسيا وايديولوجيا لوسط ما بيد أنها قفزت مرتمية في وسط آخر يقود مصيرها حتما مقضيا مشكلا نفس حمض الكبريتيك السياسي الذي فسخ جلد الإنقاذ ليفسخ كذلك جلدها. ويبدو أنها المتلازمة التي ابانها في اواسط تسعينيات القرن الماضي العراب المكين استاذ الاساتيذ عبد الله بولا تتنزل عليه شآبيب الرحمة . لقد تحلق تلامذة الرجل في ندوة القاهرة الشهيرة لتحليل ظاهرة الإنقاذ كغول أفتى لهم فيه راويتنا العالمي الطيب صالح انه أتى من اللا مكان (من أين أتى هؤلاء) ليفاجأهم بولا  أن الغولة الإسلاموية لم تسقط علينا من السماء (شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان).

.الواقع السياسي السوداني الحالي تتقاسمه اربع قوى.. الإسلاميون اتباع المؤتمر الوطني وحلفائهم في التيار الإسلامي والمكنًى بالعريض.. وبالمقابل فهناك قوي الثورة التي انقسمت إلى جذريين وأصحاب التسوية (تسونجية) ثم هناك المكون العسكري (الجيش والدعم السريع). ولكن لتطورات ما حدث إعادة توزيع لهذه القوى فاستحالت إلى تيار إسلامي لم يزل يوصف بالعريض، والجذريون (شيوعيون انضاف لهم البعثيون القوميون)، ثم أصحاب التسوية الذين أتى إلى جانبهم  حميدتي ودعمه السريع، ثم هناك الجيش بقيادة البرهان ويقع أقرب إليه القوى الاجتماعية التي سنسميها بال (ك د). في جانب التحليل السياسي فقطعا أن الإسلاميين هم الآن خارج الميدان ولكنهم عامل مهم إذ انهم يلعبون بدون كرة وهو نوع من اللعب محترف به في عالم المستديرة أن لم يكن أخطر أنواع اللعب. أما الجذريون من شيوعيبن وبعثيبن فهؤلاء لهم تأثير على الشارع ولكن يعوزهم الحليف الدولي فعليا (actually ) واحتمالا (potentially ). أما أصحاب التسوية فقطعا أن المجموعة الدولية التي يقودها فولكر بيرتس هي الداعم الأساسي لهم (actually)  بيد أن فولكر دوما يحتفظ بكرت الليبراليين الجدد بقيادة حمدوك (potentially) ليبرزه حين اللحظة الَمنشودة.

أما المعضلة الأساسية الان فيعيشها الجيش بقيادة الفريق أول البرهان رئيس مجلس السيادة إذ أن هذه القوة وهي تمثل اليوم قطاعا كبيرا من المصالح إلى جانب دلالتها العسكرية ورمزيتها التاريخية. قطعا أن الجيش السوداني في خضم صراع سياسي تعيشه الساحة السياسية في السودان اليوم يترمز بمزدوجة تتجاوز وظائفيته القحة كحامي للدستور فحسب ولكنه يمثل موقفا سياسيا كاد أن يتحول بالتدريج لادلوجة. حيث أن اكليشيه التحول المدني الديمقراطي الذي صار ادلوجة الفريق المقابل لابتزاز الجيش كطرف زائد في العملية السياسية ولا يجوز له دخولها، بيد أن هذا الموقف الأيديولوجي الذي يفترض خروج الجيش من المعادلة يفترض صيغة سوف تؤدي حتما مقضيا لتفكيك وتفتيت الجيش السوداني لصالح سيطرة القوى المدنية المقابلة وقد اقنعوا الوسيط الدولي أن ذلك هو الأجدى والإنسب لعملية التحول المدني الديمقراطي. وبالمقابل لم يتوفر نصير مدني أصيل ينبه لخطر سوق الجيش بين ثنايا هذه المتاهة السياسية لحتفه منعا له من القيام بدوره في ظل المخاطر الجيوبوليتيكية التي سنسردها بعد هنيهة. 

ان العملية السياسية الحالية مصممة لأحداث انقلاب في توجه السودان الدولي من الشرق إلى الغرب لجهة أن ذلك سوف يمنحه افضلية لاعفاء الديون (٦١ مليار دولار) إلى جانب دعم اقتصادي غربي سوف يعزز الموقف الداخلي. ولكن من يد فإن هذه الفرضية قد تناست أن تسليح الجيش السوداني دوما شرقي التوجه بلا منازع وزاد ذلك أن منظومة الصناعات الدفاعية التي تمثل اليوم القطاع الأوسع صناعيا واقتصاديا في السودان هي شراكة خالصة مع روسيا وحلفائها من روسيا البيضاء وغيرها وهو ما يلقى باعباء جيوسياسبة على كاهل الجيش السوداني بعكس مجموعة التسوية التي تقابله في الساحة السياسية السودانية اليوم. إذن فإن روسيا هي حليف الجيش فعليا الان (actually) وان ظل هناك حلفا عريضا وكبيرا محتملا (potentially) احتمالا كبيرا للجيش يدعى (بريكس) وهي مجموعة بزخت في الفضاء الدولي مقابل مجموعة ال ( G7) لها بنكها (New Development Bank ) الذي أصبح الآن يقابل البنك الدولي برأس مال يعادل  ٣ ترليون دولار. كذلك فإن هذه المجموعة تمثل ٢٦ ‰ من الدخل العالمي الإجمالي و٣٢ ٪ من مساحة الكوكب و٤١ ٪ من سكانه وليس ذلك فحسب بل إن ١٢ من الاقتصادات الأقوى في العالم في طريقها للانضمام للمجموعة (السعودية ومصر وإيران والجزائر وتركيا والأرجنتين والارغواي وتنزانيا والإمارات ). كل ذلك رغم أننا لم نقل أن الدولار في طريقه للانفكاك من تعاملات النفط العالمي لتنتهي أسطورة البتروذولار التي خلقت لهذه العملة سطوتها طيلة نصف القرن الفائت. إذن هناك شكاً كبيرا في جدوى التوجه غربا ان كان الهدف من ذلك اقتصاديا.

بالعود لموضوعنا بالقطع فإن هناك اليوم قطارا للتسوية يسير بطيئا احيانا ومتوقفا في أغلب الاحايين. أصحاب التسوية يبدون في عجلة من أمرهم لاستلام السلطة المدنية التنفيذية لمواصلة مسلسلهم في اجتثاث الإسلاميين الذين مارسوا عليهم هذا الاجتثاث طوال ثلاثين عاما خلت ، وفي ذلك تدعمهَم إرادة دولية كبيرة ومعهم بالقطع قائد الدعم السريع الذي ليس له من مناص سوى ركوب هدَا القطار الذي بدا له احسن الخيارات أن لم نقل انه مرغما في ذلك لا بطل. بالطبع فإن تسوية كهذه أن تمت فسوف تحسم التوجه الجيوسياسي للسودان في حقبته القادمة إلى جانب الغرب والولايات المتحدة ضد المحور المتبلور الان (بريكس بقيادة روسيا والصين ). ولكن من يد فهل يصبح هذا الخيار مقبولا للجيش السوداني؟ بالقطع فإن أصحاب التسوية سوف تنقصهم ملكة مهمة وحاسمة في إطار حراكهم السياسي الحالي وهم يضعون الجيش السوداني كغريم سياسي يجب اضعافه. الجيش في روع الشعب السوداني هو حجر رحى لا غنى عنه. لكنه في روع قحت المركزي هو غريم لا يتوجب عليهم التفكير في مصالحه الذاتية أو الموضوعية لأنه تحمل في بنيته مصالح الفلول وبقايا الإسلاميين. لكن من يد  وان فشلت قحت المركزي في النظر في المصالح الموضوعية للجيش السوداني فإن الجيش يصبح مرغما أن يفكر أصالة في مصالحه الموضوعية  الحيواستراتيجية وهو يفتقد النصير المدني الذي يقوم بهذه المهمة. إذن ما هي المصالح الجيواستراتيجية للجيش السوداني؟ بالقطع فإن السودان يقع اليوم جيوسياسيا في بؤرة صراعات تستدعي مطلوبات يتوجب توفرها في القوات المسلحة السودانية لتقابل مطلوبات صراعات إقليمية عدة.. مع الاحباش حول سد النهضة والأراضي المتنازع عليها في الفشقة الصغرى والكبرى ، الأطماع في مواني البحر الأحمر ، الاحتلال المصري لحلايب والوضع المأزوم في ليبيا وأثره الإقليمي على السودان، الصراع الحتمي مع دولة جنوب السودان حول الحدود (أبيي وغيرها) بطول عدة آلاف من الكيلومترات. إذن فإن التحالف الجديد الذي يلعب لصالح قحت المركزي التي تستهدف السيطرة على السلطة المدنية التنفيذية هو تحالف يتجه غربا. ولكن من يد فإن التسليح السوداني وما يقتضيه من صناعات مصاحبة هو روسي التوجه بالكامل منذ ستينيات القرن الماضي ليأتي نميري ليستحيل كامل التسليح السوداني لسلاح آت من الكتلة الشرقية ولتكمل الإنقاذ ما نقص. إذن فإن سارت التسوية كما قدر لها دوليا الآن وفق التأثيرات التي يقف على رأسها فولكر بيرتس فإن السودان سوف يتجه بعكس التوجه الذي تقتضيه مطلوبات القوة الباطشة للقوات المسلحة ومن ثم فإننا كدولة سوف نقع في مصيدة عظمى ثمنها التوجه أمريكيا وأوروبيا لتسليح جيشنا وهو ما سوف يقتضينا عدة تنازلات لمصلحة اسطرلاب التوجه الغربي في أفريقيا لأن الضغط على الزناد الأمريكي مشروط بالموافقة الأمريكية بعد أن نكون قد فقدنا السلاح الروسي غير المشروط وهو الأمر الذي جعل دولة كالهند (الخامسة في اسطرلاب الاقتصاد العالمي) لا تنفك متوجهه روسياً لجهة انها روسية التسلح منذ استقلالها في العام ١٩٤٧ لموازنة العدو الباكستاني المتسلح امريكيا.
هل تعي قيادات الجيش السوداني هذه المعضلة؟ قطعا فإن الجيش السوداني يأمل في تسوية سياسية تمنحه أن يختبر خياراته في المجال الدولي في الاكتفاء التسليحي ولكن قطعا أن نشأ توجه سياسي دولي سوداني يتوافق مع ما تعتقده قحت أن تحولا مدني ديمقراطي يقتضي التحالف مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا، فقطعا أن  ذلك سوف يتناقض مع المصلحة التسليحبة للجيش وهنا فأن الجيش سوف يدفع ثمنا باهظا قد يؤدي لتفكيكه كما حدث للجيش العراقي الذي وقع في براثن احتلال أمريكي بيد  أن قوته التسليحبة تتجه روسياً.
نحن لا نجزم ما أذا سوف يمضي الجيش في هذا الاتفاق ام لا فالليالي حبالي يلدن كل عجيب ، ولكني في كل اليقين أننا كسودانيين نحتفظ بملكتنا للقفز في حمض الكبريتيك السياسي المؤدي إلى مزبلة التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!