رسالة حمدوك.. الآثار والدلالات والرهانات المضمرة.. ما فوائد المذكرة؟ هل سيتم تشكيل حكومة منفي ؟
في سياق تنوع مشاهد الصراع المنعقد حول سلطة الانتقال، وانتقال السلطة في السودان، وتحوله من أفق الثورة إلى الحرب، برز سؤال شرعية النظام القائم بأثر رجعي لا على ما أنتجته المعارك الدائرة في عمق المركز، وإنما حول المفاصلة الانقلابية بين أطراف الوثيقة الدستورية التي جرت في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021. وفي استدراك تأخر عامًا كاملًا، بعث عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق، رفقة نخبة من أعضاء حكومته، بمذكرة احتجاج إلى أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، حول مشاركة البرهان في الدورة الثامنة والسبعين لاجتماع الجمعية العامة، بحسبان أن انقلاب المكوّن العسكري على المكوّن المدني “داخل تركيبة السلطة” أحدث انهيارًا دستوريًا كليًا تمخضت عنه حكومة “أمر واقع” لم تلبث أن انهارت هي الأخرى بسبب الحرب المشتعلة.
خطيئة أم أثر جانبي
رأت المذكرة في الاشتباكات المدوية بين الجيش والدعم السريع محض أثر جانبي لـ”خطيئة الانقلاب”، وليس قدرًا حتميًا لإقرار تشوهات البنية الكامنة في المنظومة الأمنية والعسكرية المُتوارثة، في غياب واضح للنبرة النقدية المتصاعدة لصيغة الشراكة “المنقلب عليها”، والاستعاضة عنها بحكم مدني كامل، ضمن ترتيبات الاتفاق الإطاري الذي أوقفته الحرب، واستئناف المسير بتجاوز لماح، لسؤال من فجّر الصراع: أهو التناقض المؤسسي الحاد داخل المكوّن العسكري، أم تآمر حلقة تنظيمية متربصة بطور الانتقال تحرك الأحداث من وراء حجاب؟
باحث: الرسالة تتساوق مع الرهانات الخارجية التي مثل رئيس الوزراء السابق حلقة مركزية في إنفاذها
أشارت المذكرة إلى رفض المؤسسات الإقليمية والدولية للانقلاب، والمطالبة بإعادة السلطة إلى المدنيين، واتخاذ قرارات تساعد على استعادة مسار الانتقال، وتبطل مفعول التدابير الاستثنائية التي أنشأها الانقلاب أول مرة. وأتت الحرب نسجًا على منوالها، مبدية اعتراضها على ما اعتبرته مسلكًا مخالفًا للمواقف المعلنة، بدعوة ما أسمته “قائد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر” وهو طرف في الحرب الدائرة رحاها بالسودان، من شأنه أن يساهم في إطالة أمدها، ويشجع الانقلابات العسكرية، التي زادت وتيرتها في أفريقيا مؤخرًا، ويتناقض مع أدبيات ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، والتي حددت مهام الجيش بدفع المخاطر الخارجية وحماية الدستور والخروج من ممارسة الحكم إلا في نطاق وظائفه المهنية التي لا يقوم بها غيره.
التشويش على المشروعية والتماهي مع الخارج
ويعتقد محمد الواثق أبوزيد، الفاعل السياسي والباحث في الشؤون الدولية والسياسية، أن المذكرة تدور وجودًا وعدمًا حول التشويش على مشروعية البرهان الذي استطاع أن يستدير بعد خروجه لتحقيق كثير من المكاسب، وأهمها مخاطبته للجمعية العامة للأمم المتحدة بصفته رئيس الدولة لا قائد الجيش فحسب، بخلاف ما أسس له منبر جدة الذي بنى رؤيته المركزية حول توصيف الصراع على أنه بين مؤسستين لهما ذات الكينونة الاعتبارية.
ويرى الواثق أن المذكرة تتساوق مع الرهانات الخارجية التي مثل رئيس الوزراء السابق حلقة مركزية في إنفاذها، بدءًا من ظهوره الضاج محمولًا على ما أسماه “مشهدًا مصنوعًا” اشتهر بوسم “شكرًا حمدوك” ودور مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الافتراضية في نجاحه، مرورًا بمرحلة ترؤسه للسلطة التنفيذية واستدعائه للبعثة الأممية وما ترتب عليها، ثم اشتراكه بحسب شهادات وبينات ظرفية متواترة في ترتيبات الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، وتوقيع اتفاقه مع البرهان بمبادرة من قائد ثاني الدعم السريع في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الذي نسف به حدث الانقلاب، ثم استقالته الشهيرة في 2 كانون الثاني/يناير 2022. مؤكدًا أن الوقائع المقطوع بصحتها يقينًا تتناقض مع ما ذهب إلى تقريره في مذكرة الاحتجاج. وألمح إلى رهان مضمر في جوف المذكرة الاحتجاجية إلى إمكانية تشكيل حكومة منفى أو إعادة الاعتراف بحكومتهم السابقة، واصفًا المباينة التي سعت إلى تأسيسها مع جيشها وهي تساويه بقوى متمردة في مسارات التفاوض ثم تعمل على الوقوف بالضد منه والتشكيك فيه مما يمثل مكافئًا موضوعيًا لسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها في الميدان قوات الدعم السريع على المؤسسات والبنية العمرانية بسبب فشلها في إدراك أهدافها.
ما الجديد؟
وفي تغريدة بمنصة إكس “تويتر سابقًا”، تساءل أمجد فريد وهو مستشار سابق في مجلس الوزراء، حول معرض الاحتجاج على تمثيل البرهان للسودان في المحافل الدولية – تساءل قائلًا: ما الجديد؟ بتركيز أخص على حالة مشاركة البرهان في الجمعية العامة للأمم المتحدة كقائد لانقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، وهو الذي شارك في العام الماضي بذات الصفة.
يقول أمجد: الفرق هو وجود الدعم السريع في الحكومة وهو ما يمنح شرعية مشاركة البرهان بحسب منظور المعترضين. بينما يقرر محمد محمد خير أن مضمون المذكرة يؤكد تحالف قوى الإطاري بقيادة حمدوك هذه المرة، مع الدعم السريع، ليس على صعيد تبني ذات الرواية والرؤية حول الحرب وكيفية إنهائها، بل في إطار بذل ما من شأنه أن يعزز موقف الدعم على حساب الجيش.
وفي سياق متصل أكد محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة السابق وأحد الموقعين على المذكرة، أن الهدف منها تشجيع البرهان للمضي في طريق السلام، لأن خطابه في الأمم المتحدة لم يعكس تطلعات السودانيين الراغبين في الاستقرار، مبينًا في تصريح لـ”سودان تربيون”، أن مخاطبة حمدوك فيها “رمزية كبيرة”، متوقعًا الرد على فحوى الخطاب من الهيئة الأممية، مشيرًا إلى أن منبر جدة يمثل فرصة عادلة للحل، وهو أمر “متفق عليه إلا من قلة معزولة”، بحسب زعمه.
حكومة منفى
ويذهب عباس محمد صالح الباحث والمحلل السياسي، إلى وصف المذكرة بانعدام القيمة السياسية الحقيقية، لجهة أن البرهان عزز شرعيته من خلال مخاطبة أعمال الجمعية العامة، ومع ذلك لا ينكر الآثار الرمزية والمعنوية للحكومة السابقة التي تصدر عن مشكاة ما ظلت تؤكده في تمثيل أهداف الثورة، مبينًا أنها ربما استفادت من حديث البعض حول الفراغ الحكومي منذ الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021. وفي معرض ما يبدو تقاربًا حد التطابق بين الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير، سيما بعد تبرؤ قائد الدعم السريع من الانقلاب على حمدوك، ذكر عباس أن آصرة بينهما تشكلت على وحدة المصير والهدف، مرجحًا -كما ذهب الواثق في ذات السياق- إلى إمكانية تكوين حكومة منفى سيما أن أعضاء حكومة حمدوك تعد طرفًا أساسيًا في الكيان المناهض للقوات المسلحة. ومضى صالح إلى استبصار واقع التنافس الداخلي في التكوينات المدنية واصطراع ثلاث كتل في احتكار التمثيل المدني، واندراج رسالة حكومة حمدوك في اعتبار الانقلاب هو من فجّر الصراع وأشعل الحرب، في مناقضة لكل السرديات الأخرى كما أشرنا. ويعكس البيان مخاوف فريق من أن انتصار القوات المسلحة سيرسم موازين القوة والمعادلة السياسية مع مؤشرات تراجع المكونات المدنية، وخسارتها الالتفاف الجماهيري وتآكل رأسمالها الثوري وصعود قوى أخرى يؤدي إلى خسارة ما أسماه عباس “المشروع السياسي” وحصصها التي نالتها بوضع اليد من السلطة الانتقالية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للثورة.
فوائد المذكرة
وأقر عمرو صالح ياسين المثقف الثوري والباحث والفاعل السياسي، أن مذكرة حمدوك لم تسع إلى تحقيق أي هدف يتعلق بإيقاف الحرب، وهي ضد الحياد “المدعى”، مُقارنًا بين رفض قحت لتصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية لسبب “عدم تأزيم الوضع”، وفي الوقت ذاته ممارسة التشكيك في سلطة الأمر الواقع التي يمثلها الجيش، مؤكدًا أن خط التشكيك يتسق مع دمج الجيوش في الاتفاق الإطاري، وليس دمج الدعم السريع في الجيش. مؤكدًا أن الرسالة مفيدة في تجريد العدو عوض تجسيده بتعريف المصالح المجردة وتقييم المواقف السياسية وفق المصالح وما يعارضها، موضحًا أن نهج اتباع المصالح يحقق قدرًا وافيًا من الاستقلالية السياسية المبنية على حساب المصالح المادية المباشرة، كما تمنح المذكرة درسًا في أهمية المؤسسات للخروج من المأزق التاريخي للدولة السودانية، وعدم اعتماد أي مجموعة سياسية تعمل بمنأى عن المساءلة والمحاسبة والنقد المؤسسي.
تظهر المذكرة على كثافة دلالاتها وآثارها ورهاناتها المضمرة كحدث مفصلي في سياق الحرب؛ مفارقة كبرى متعلقة بنهج حمدوك الذي اتسم سلوكه السياسي بالحذر وتحقيق الإجماع والتوافق
تظهر المذكرة على كثافة دلالاتها وآثارها ورهاناتها المضمرة كحدث مفصلي في سياق الحرب؛ مفارقة كبرى متعلقة بنهج حمدوك الذي اتسم سلوكه السياسي بالحذر وتحقيق الإجماع والتوافق، إذ حفظ عنه تطميناته المبذولة في العمل على قواعد الانسجام والحوار وبث الأمل باستبصار ضوء دائمًا في عتمة الأنفاق مهما بدت ظلمتها طويلة وخانقة، في مقابل اعتماد منهج جديد صادم لا يشبه الرجل ولا يلائم المرحلة.