جريدة بريطانية : هل تتجه دارفور إلى “الحكم الذاتي”؟
قد يقود “الدعم السريع” الإقليم من الخرطوم بعد إحكام السيطرة عليها وتوقيع اتفاق سلام مع القوات المسلحة وحلفائها من الحركات المسلحة
اتخذت قضية دارفور على طول تاريخها طابعاً ملحمياً، بدءاً من مرحلة النزاعات حول المراعي والأراضي الزراعية إلى الصراعات بين القبائل ووجودها على الأرض متجاورة، كما اتخذت سياقات عدة تداخل فيها الإثني الاجتماعي والديني والسياسي، وبهذا نجد أن هذه العوامل قد تشابكت دوافعها، ورسخت أساساً تاريخياً للحرب في الإقليم، ولم تطرأ تحولات على مسار هذه النزاعات التاريخية إلا بتوازن القوى حسب ما سمحت لكل طرف بإعادة تموضعه.
هزت الحرب الطويلة في دارفور أساس الدولة، وكي تحافظ على وجودها كان هناك طريقان، طريق السلام الصعب، وطريق الحرب الذي استدعى بدوره عنف الدولة البنيوي والمادي، وفي محاولة بحث نظام الرئيس السابق عمر البشير عن بديل من إقليم دارفور يتحمل عنه مصادمة الجيش وحده ويواجه الحركات المسلحة التي تنتمي إلى إثنيات أفريقية، المناوئة للنظام والمتمردة عليه ومؤيديها من الأحزاب السياسية المعارضة، استعان بمجموعة “الجنجويد” بزعامة موسى هلال من قبيلة الرزيقات العربية التي تحولت في ما بعد إلى “الدعم السريع” بقيادة ابن عمه محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
وبينما كان نظام البشير ومحركه الأساسي تنظيم “الإخوان المسلمين” يتحرك مدفوعاً بمشاعر دينية ممزوجة بالعنف في حالة حربه مع الجنوب، فإنه في حرب دارفور كان محركه، حد التعصب، مشاعر قومية اكتست بعنف إضافي ضد القبائل والإثنيات الأفريقية.
وإزاء هذه الحال، نعت الحركات المسلحة في دارفور دولة ما بعد الاستعمار، وظلت تبث مر الشكوى من التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ونادت بتفكيك ديناميات التشوهات البنيوية في الدولة السودانية، ثم تبنت المطالبة بالحكم الذاتي (الفيدرالي)، ونفذته نظم الحكم المختلفة، إلى أن وصل أخيراً إلى تعيين حاكم عام لدارفور بولاياتها الخمس، هو مني أركو مناوي زعيم “حركة تحرير السودان” الذي ينتمي لقبيلة الزغاوة.
برز مطلب “الحكم الذاتي” في الحرب الدائرة منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، التي التقطته وأصبحت أكثر إصراراً على تحقيقه لصالحها، وتزامن مع ذلك ارتكاب “الدعم السريع” عمليات قتل وتهجير واسعة ضد قبيلة “المساليت” في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، فيما وصفتها الأمم المتحدة بأنها عملية تطهير عرقي، وأصبح جلياً أن هذا المطلب ستترتب عليه تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية.
مطلب مشترك
على رغم أن أزمة الحرب في إقليم جنوب السودان، سبقت الحرب في إقليم دارفور، كما أن الحلول المطروحة لحل مشكلة الجنوب سبقت الحلول لقضية دارفور، إلا أن المطلب المشترك الذي ظل ملازماً للإقليمين وطرح خلال الحربين هو “الحكم الذاتي”.
أفضت محادثات بروتوكول ميشاكوس عام 2002، التي عقدت في كينيا إلى توقيع اتفاقية بين الحكومة و”الحركة الشعبية لتحرير السودان”، كما استندت نصوصها إلى الاستفتاء على حق تقرير المصير ليقرر أهل الجنوب ما إذا كانوا يرغبون في البقاء ضمن دولة السودان أو الانفصال إلى دولة مستقلة. وقبل توقيع اتفاق نيفاشا للسلام عام 2005، بين الحكومة والحركة، تحركت قوات الجيش عام 2004 إلى دارفور في غرب السودان للقضاء على حركة التمرد التي اتهمت السلطة المركزية في الخرطوم بتهميش الإقليم، وشهد الإقليم عمليات قتل وعنف مستمر بينما نزح مئات الآلاف من سكان دارفور إلى تشاد، وبعد وصف وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول الوضع في دارفور بأنه “إبادة جماعية”، فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على منتهكي اتفاق وقف إطلاق النار هناك، وقرر إحالة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب في الإقليم إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وعندما صدر دستور عام 2005، الذي أعطى إقليم الجنوب حق الحصول على الحكم الذاتي، كان ذلك بمثابة مقدمة لمطالبة حركات إقليم دارفور بالحق ذاته، وكانت قد وقعت مع الحكومة في العام التالي له اتفاق “أبوجا” للسلام عام 2006، وهي “حركة تحرير السودان” جناح مني أركو مناوي، بينما رفضت التوقيع “حركة تحرير السودان” جناح عبدالواحد محمد نور، و”حركة العدل والمساوة” بقيادة خليل إبراهيم.
اشتمل اتفاق “أبوجا” على قضايا تتعلق بتقاسم السلطة ونزع سلاح “الجنجويد”، ودمج قوات الحركتين في القوات المسلحة السودانية والشرطة السودانية، واستفتاء حول الوضع المستقبلي لدارفور وتدابير لتعزيز تدفق المساعدات الإنسانية إلى المنطقة.
ولما بدأ الاستفتاء الشعبي الذي أفضى إلى استقلال جنوب السودان عام 2011، كانت “حركة العدل والمساواة” قد وقعت مع الخرطوم اتفاق سلام، فسارع البشير إلى إعلان انتهاء الحرب في دارفور حتى لا يتعرض الإقليم إلى تفوق الأصوات المنادية بالحكم الذاتي، ولكن تأججت النزاعات مرة أخرى بمقتل قائد “حركة العدل والمساواة” خليل إبراهيم بغارة جوية نفذتها القوات المسلحة في شمال كردفان.
تعثر الدمج
استمرت الحرب في دارفور لأن الحركات المسلحة رأت أن نظام البشير يوقع على اتفاقيات السلام من جهة، بينما يدعم “الجنجويد” في حربها ضد قبائل دارفور ذات الأصول الأفريقية من جهة أخرى، ولما حدث انفصال الجنوب، اعتقدت أن بإمكانها الحصول على النتيجة ذاتها، وإضافة للدعم الذي كانت تتلقاه الحركات المسلحة من ليبيا وتشاد، كانت المنظمات الدولية تقف ضد الحرب وتهجير السكان من منازلهم، وعدته نوعاً من التطهير العرقي ضد جماعات أفريقية معينة مثل “الفور” و”الزغاوة” و”المساليت”.
وبعد أن أجاز البرلمان السوداني “قانون 2017” الذي قضى بتقيد قوات “الدعم السريع” بمبادئ القوات المسلحة، كانت الحركات المسلحة في دارفور تعتقد أن مشاركة “الدعم السريع” في السلطة المركزية في الخرطوم، قد يبعدها من إقليمهم، ولكن ترتيبات قائدها حميدتي أخذت منحى آخر، إذ شارك عقب انتفاضة عام 2018 في الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، ثم وقع اتفاقاً لتقاسم السلطة منحه منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان.
وبعد تنفيذ المجلس العسكري إجراءات الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، تيقنت الحركات المسلحة أن الانقلاب الذي نفذه البرهان ونائبه حميدتي سيؤسس لحكومة جديدة قابضة على السلطة، وأن فرصة حميدتي في الحكومة الانتقالية لن يهدرها من أجل إثارة النزاع في دارفور، ولكن يمكنه العمل على إثبات وجوده هناك، وعندما تعسكرت ملامح العاصمة الخرطوم بوجود مجندي الحركات المسلحة من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق انتظاراً لتنفيذ بند الدمج في الجيش، حسب ما نصت عليه اتفاقية جوبا للسلام 2020، انضمت إليها أرتال من قوات “الدعم السريع” جاءت من دارفور إلى الخرطوم.
كانت المفاجأة أنه بعد كل هذه الترتيبات، وتوقيع المكون العسكري و”تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير- المجلس المركزي”، على الاتفاق الإطاري في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لبدء عملية جديدة للانتقال السياسي مدتها عامين وتعيين حكومة مدنية، نشب الخلاف بين المدنيين والعسكريين من جهة، وبين الجيش و”الدعم السريع” من جهة أخرى، خلال ورشة عمل الإصلاح الأمني والعسكري الخاصة بمناقشة القضايا العالقة التي نص عليها الاتفاق الإطاري، وتسبب الخلاف حول خطط دمج قوات “الدعم السريع” ومدة تنفيذ الاتفاق، والمطالبة بخضوع الجيش لإشراف مدني، في إرجاء التوقيع على الاتفاق مرتين في مطلع أبريل الماضي، إلى أن اندلعت الحرب في 15 من الشهر نفسه.
نزع السلاح
يرجع كثيرون، الصراع في دارفور إلى الفوارق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتجذرة التي استمرت طوال التاريخ الاستعماري ومرحلة ما بعد الاستعمار في السودان، فقد همشت النخب السياسية الحاكمة من المركز، الأقاليم البعيدة، وظلت بعض الأرياف حتى الآن بعيدة مما يدور في المركز، بينما قصر الظل الإداري للحكومة من أن يحيطها بالاهتمام المطلوب ويوفر لها الخدمات اللازمة، وهو ما وصفه الكاتب السوداني منصور خالد بتعود النخبة السياسية على مثل هذه الحالة من التجاهل، في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل”.
أثير موضوع الحكم الذاتي مرة أخرى في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، خلال “مؤتمر قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال” بقيادة مالك عقار، الذي دعا إلى منح إقليم دارفور حكماً ذاتياً، وطالب بتسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية بما في ذلك الرئيس عمر البشير، وتحقيق العدالة الانتقالية في دارفور وبقية مناطق السودان.
وكان هذا البند بالنسبة إلى مالك عقار ترجمة لرغبته أيضاً في حصول إقليم “النيل الأزرق” الذي يحكمه على الحكم الذاتي، ولكن مرت مياه كثيرة من تحت الجسر، فقد وقع عقار اتفاق سلام جوبا، ومع بقية قادة الحركات المسلحة بانتظار الوفاء بمتطلبات الاتفاق بما فيها دمج قواته في الجيش، ثم تعيينه نائب رئيس مجلس السيادة بدلاً من حميدتي، بعد أن عزله البرهان وأعلن تمرد قواته.
يمكن ألا تتمسك الحكومة بالاعتراض على مطلب “الحكم الذاتي” لإقليم دارفور وفقاً لرؤية “الدعم السريع”، إذ ربما يقاوم الجيش لفترة قصيرة ثم يعلن استعداده للقبول به في محاولة لإنهاء العنف، ولوقوع ضغوط دولية كبيرة عليه من جهات عدة، ولكن ستواجه الجميع مشكلة نزع سلاح “الدعم السريع” وتأمين المنطقة، وفي هذه الحالة يمكن نزع سلاح بعض القوات الموجودة في دارفور، وإخلاؤها من السلاح موقتاً ومواصلة الحرب من الخرطوم ومناطق أخرى للضغط أكثر على البرهان بغرض الموافقة على تولي “الدعم السريع” “الحكم الذاتي” في دارفور.
إحكام السيطرة
على رغم تطبيق السودان أشكالاً مختلفة من “الحكم الذاتي”، إلا أن الصلاحيات كانت في معظمها ممنوحة من المركز وإلى من ترضاه السلطة حاكماً للمنطقة المعينة، وفي حالة دارفور حين منحت أخيراً لحاكمها مناوي، ظل المركز مسيطراً رغم ذلك، كما أن مناوي نفسه يدير الإقليم من مقر إقامته في الخرطوم.
ويتوقع أن يظل مطلب “الدعم السريع” بحصول دارفور على “الحكم الذاتي” غطاءً سياسياً للحرب الحالية إلى أن يتحقق، وعندها ستفتح الأبواب أمام عنف مؤهل للاستمرار لفترة طويلة وعلى مساحة كبيرة ربما تجتذب القبائل العربية في الجوار الإقليمي، وما يسهم في إشعالها أكثر عوامل عدة تأتي في مقدمتها “الإثنية”، لا سيما أن المطالبة، هي في الأساس منافسة وصراع مع عدو تاريخي يبرر كل منه شرعية وجوده وأحقيته بالحكم الذاتي ليكون مقدمة للانفصال بدولة مستقلة.
وفي حال الاتفاق مع “الدعم السريع” لتسلمه “الحكم الذاتي” على دارفور تتراءى سيناريوهات عدة بناء على هذا الواقع، ومنها الأول، أن يحكم “الدعم السريع” دارفور من الخرطوم بعد إحكام السيطرة عليها وتوقيع اتفاق سلام مع القوات المسلحة وحلفائها من الحركات المسلحة.
أما السيناريو الثاني فهو حكم دارفور من مركزها هناك، في حال عدم الاتفاق مع الحركات المسلحة لصدها والوقوف أمام أي محاولات لتدخل دول الجوار مثل تشاد مع توقع هبتها لنصرة المجموعات الأفريقية خصوصاً الزغاوة.