إسحق أحمد فضل الله يكتب:(دندنة المرهق)
متابعة:الرؤية نيوز
المرأة حين ترهق من البكاء الموجع تظل تهتز وتدندن… المناحات هي هذا، والمراثي عند الرجال مثلها… نوع من دندنة المتعب الموجوع.
ونحن نرهق الآن… وندندن… ولهذا نتجنب الحديث الغليظ، ونجُرّ النمّ والحديث الخفيف.
ومصطفى محمود عن الإرهاق في حياتنا اليوم يكتب:
كان يقف أمام المرآة يكمل أناقته، فهو ذاهب إلى حفل خطوبته… وكان ذهنه يتصور مشهد جلسة الخطوبة في البيت الأرستقراطي، الذي تبغغب بناته بالفرنسية والعطور… ولما كان يمشي في الطريق كان يستطيع أن يتخيل مشاهد اللقاء المعد مثل الزجاج المعشّق، والضحكات الزجاجية، وأواني الشاي الإيطالية، وهمسات الخطيبة التي تدربت عليها شهوراً… والنكات التي تبدو كأنها اخترعت في ضواحي جهنم.
كان يشعر أنه يختنق مع كل خطوة… والشاب ينتبه إلى أنه يمر ببيت خاله ويدخل، وبنت خاله المرحة تستقبله بضحكتها الهينة، والمكنسة في يدها وشعرها مغطى بالغبار. البنت المنطلقة في الحديث تجعله يجلس وتضع المنضدة الصغيرة وتضع الشاي. وفي الثرثرة المتزاحمة مع الضحكات والأخبار والنكات تسأله عن أمه وعن صحته، ودون انتظار للإجابة تسكب أخبار أمها وفستان يبوظ و… وهذا أثناء انهماكها في نظافة الغرفة. والشاب الذي كان قد نسي الاختناق ونسى الهواجس ينظر إلى مشهد الفتاة المرحة… ويقول ببساطة:
ــ أمينة… تتزوجينني؟
المشهد المسترخي السهل الهادئ هذا كان هو الحياة كلها… وعن التعب في حياة اليوم يكتفي مصطفى أن يقول هذا… وببراعة تجعلك أنت تسترخي وتستريح من التعب.
وعن التعب، الكاتب موباسان في القرن الماضي يكتب قصة، وهي بالطبع عن العشق والألم، لكن الكاتب كان رحالة ورساماً. والحكاية يحكيها لنساء معه في عربة تجرها الخيول… وفيها أنه كان يقيم في فندق ريفي، وهناك فتاة خادمة تعشقه عشق المساكين… العشق الصامت العاجز… و… و… ويوماً تفاجأ برؤيته مع أخرى… فتنتحر بإلقاء نفسها في البئر.
حكاية مكررة، لكن السطر الأخير فيها يرسم مشهد العربة بعد أن انتهت الحكاية، والجميع صامتون… والحزن الذي جلس معهم في العربة يجعلها ثقيلة…
حتى القرن الماضي كانت المشاعر تمشي في حياة الناس… ثم جاء زمان قُتل فيه الملايين، وأصبح ركام الأحجار وركام الجثث وركام النفوس الميتة شيئاً واحداً…
ومادام الحديث عن النفوس البسيطة حين تسقط في بحر الألم الأخرس، هناك قصة صغيرة سودانية لا نعرف كاتبها تقول:
البنت “أم زهور” تسقط السقطة التي تحطم حياة كل بنت… وأهلها يجعلونها تبقى تمسح الأرض صامتة، هي والكلب.
وزينة، شابة جميلة، والخطاب زحام… لكنها تظل ترفضهم بعنف. ويوماً يحاصرونها يسألون عن السبب. وحين لا تجد مفراً، تسدد عيونها إليهم وتقول:
ــ لن أتزوج… لأنني لا أريد أن أقضي بقية حياتي أغسل الأرض.
…….
عفواً… حتى في بحثنا عن باب للهرب من المواجع لا نجد إلا أبواب المواجع.
اللهم… اللهم… اللهم..
إسحق أحمد فضل الله