خطابات الجنرالين.. والحرب آخرها كلام!
خلافًا للمثل الشرود “الحرب أولها كلام”، غدا الحديث في سياق الحرب أهم أدواتها تأثيرًا ونفاذًا في تشكيل الآراء وحشد التأييد واستدامة الزخم، إذ لم يعد الخبر، في معركة السودان المشتعلة منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل، هو سقوط معسكر أو استرداد جسر أو حماية هدف عسكري من هجوم مباغت، بقدر ما صار ظهور قائد الدعم السريع صوتًا وصورة خبرًا عاجلًا، تفرد له مساحات التغطية وتبذل في نطاقه الجدلي التحليلات والآراء المتعارضة صوابًا وخطأ، ليس حول زيف مضمون الخطاب من عدمه، وإنما في صحة نسبة التسجيل نفسه إلى قائله، في ظل انتشار أحكام عامة بتوظيف أحدث أساليب الذكاء الاصطناعي لبعث الجنرال المتواري عن الأنظار من مراقد المجهول. وفي المقابل كان خروج عبدالفتاح البرهان قائد الجيش في عملية لم يُعلن عن تفاصيلها، أهم حدث منذ الهجوم عليه ونجاته من موت محقق أول ساعات الحرب، وهي تقوم على هدف القضاء عليه وإن لم تنتهِ بخروجه الدراماتيكي، في رحلة خاضها من مركز القيادة والسيطرة إلى أبعد نقطة عن مسارح العمليات القتالية وأقرب نقطة إلى منبر جدة، برغم ما قد يتراءى من تناقض بين الأطروحات المتباعدة لإنهاء الحرب واشتداد حمأة الاشتباكات لتحسين المواقف وتحصين المكاسب الميدانية، التي لا يمكن أن تقرأ في مختتم الأمر إلا على طاولة التفاوض.
استبق “حميدتي” ظهور البرهان من على منصة إكس “تويتر سابقًا”، بينما ظهر قائد الجيش معتليًا منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة
استبق “حميدتي” ظهور البرهان من على منصة إكس “تويتر سابقًا”، بينما ظهر قائد الجيش معتليًا منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ساردًا وقائع معلومة بالضرورة؛ فيما أعاد قائد الدعم السريع ذات السرديات القديمة. ورأى مراقبون أن الجنرالين مضيا في وجهتيهما، وهما يجتران ذات المواقف والروايات حول نشوء الحرب وما حدث خلالها من انتهاكات، ويؤسسان على إثرها مطالب تلتقي على مدنية الدولة وتفترق على تأويلاتها.
موقف “قحت”
وفي بيان منسوب إلى قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي، قالت إن ما أدلى به قائد الجيش أتى مخيبًا للآمال، ولم يطرح أي تعهدات واضحة تخاطب المأساة التي يعيشها الشعب، برغم ما ورد في الخطاب على نحو جلي من التزام بنقل السلطة إلى الشعب عبر توافق عريض وتراضٍ وطني يخرج بموجبه الجيش من العمل السياسي ويؤسس لتداول السلطة من خلال الطرق الشرعية والسلمية المتمثلة في الانتخابات. وعلّق شريف عثمان المتحدث باسم الحرية والتغيير في مقابلة تلفزيونية، أن البرهان أضاع “فرصة تاريخية” في تقديم رؤية شجاعة للحل، وذلك حين اختار إحاطة أهم منبر دولي بحقائق معلومة في مجملها لقادة العالم، شارحًا بأن الموقف لم يعد بحاجة إلى التفسير بقدر ما يستدعي حشد الإرادة للتغيير. ورأى عثمان إسهاب البرهان حول تأثير الحرب على السلم والأمن الدوليين وإمكانية انتقالها إلى دول في الإقليم يمكن أن يأتي بنتيجة عكسية، والتعاطي مع الدولة السودانية بوصفها سلطة فاشلة لم تنجح في الحفاظ على حالة السلم والأمن، ولم تتمكن من إبقاء تماسك الدولة. ومضى صلاح مناع القيادي السابق في لجنة إزالة التمكين، فيما اعتاد أن يرسله من نقد لاذع لقيادة الجيش عبر تغريداته – مضى إلى أن البرهان لم يفعل أكثر من مخاطبة نفسه، وكان من الأولى، أن يدخر منصرفات رحلته البالغة مليون دولار، لستة ملايين نازح ولاجئ تشردوا بسبب الحرب المشتعلة.
البرهان في نيويورك
في المقابل، رأى قطاع وازن من كتاب وأعمدة الرأي، أن خطاب البرهان أتى شاملًا ومعبرًا عن مقتضى الحال، حيث شرح بدقة وافية، طبيعة الحرب والرهانات الكامنة وراءها، وسعي قيادة الجيش التي نشأ الوضع الانتقالي كله من خلال انحيازها كمؤسسة ناظمة، لبقاء الدولة واستمراريتها، بطرق سبل السلام وإيقاف الحرب، ومخاطبة مخاوف عسكرة الفضاء العمومي، بالخروج من العملية السياسية ونقل السلطة عبر الانتخابات، بعد حكومة مدنية من مستقلين، تشرف على أعمال التحول نحو الديمقراطية. وأبان قاسم الظافر أمين عام الحركة الوطنية للبناء والتنمية قائلًا إن البرهان “نجح في إعادة تعريف الحرب”، ليس بوصفها خصومة بين جنرالين، وإنما بوصفها حربًا شاملة ضد المواطنين، والذين تضرروا بشكل واسع من خلال ما تم من انتهاك قصدي ومتعمد وانتهاب ممنهج لا يقع على حصر. واعتبره عمرو صالح ياسين أحد الأصوات الثورية المعروفة “خطابًا ممتازًا لأبعد الحدود” ويقطع الطريق أمام أي عملية سياسية تبقي على الدعم السريع، مؤكدًا أن ما أسماه “الاقتصاد السياسي لحكم البرهان” يحتم عليه أن يتعاطى مع الدعم السريع على نحو صفري وحاسم.
حميدتي على منصة “إكس”
ولم يحظ خطاب قائد الدعم السريع بردود فعل واسعة، برغم ما بذل في خضم ظهوره صوت وصورة من تغطية وافرة، إذ مر دون أن تؤسس جهة سياسية موقفًا على ما جاء فيه، وانشغل المجال السياسي عن مضمونه بحقيقته. ويرى محمد فاروق سليمان أحد أبرز الفاعلين الثوريين الجذريين أن خطة إخفاء “حميدتي” لا تخلو من ذكاء، إذ تحول من مسؤول عما تقوم به قواته من انتهاكات، إلى موضع سؤال مستمر حول مصيره، وكأن غيابه -إذا صحت هذه الفرضية- هو السبب القريب المباشر للانتهاكات الواسعة التي يمارسها جنوده. يقول سليمان: “الآن يغامر حميدتي بكل الجهود لإبقاء أمر حياته لغزًا لينافس خطاب البرهان أمام الأمم المتحدة، ناسيًا أن وجود برهان ممثلًا للسودان أمر سبق.. ومتناسيًا أن ظهوره هو الحدث لا ما سيقوله”.
وبالنظر لخطاب القائد دقلو، نجده وقد بات متموقعًا في قلب قضايا التغيير الذي تمثله قوى الإطاري، متماهيًا مع خطوطها ومساراتها، ومتمايزًا في الآن نفسه عن خطابات التعبئة والتحشيد حول “دولة 56” و”ضرب هيمنة المركز”، تلك الخطابات المنتشرة بكثافة في ثنايا الآلة الإعلامية المساندة للدعم السريع، وهي مفارقة طبيعية تمليها شروط إنتاج أكثر من خطاب لأكثر من مستوى، والإحاطة بالتعقيد الهائل الذي يكتنف تفاعل منظومة الدعم السريع مع البيئة السياسية السودانية كقوى صاعدة من فضاء المجتمع التقليدي، والتناقض الحاد بين المكونات “ما قبل السياسية” بخصائصها القبلية والجهوية والأفق الوطني المتجاوز لهذه الرهانات والمتمركز حولها في آن.
معادلات السلطة
لقد سبق لدكتور قيصر موسى الزين أن نبّه إلى خطورة إخراج ما أسماه “الجهاز العسكري للمكونات العربية” إلى حدود أبعد من نطاق الجغرافيا الاجتماعية لتأثيراته ومفاعيله، مثلما أشار دكتور الوليد مادبو إلى أكبر حدث بتسليح قوى الريف الصاعدة وما يلقيه من ظلال على معادلات السلطة في بلاد هشة التكوين مهترئة النواظم تعيش -كما كان يردد أبوالقاسم حاج حمد- وحدة سطحية في تباين عميق، وأن ما يتخلق الآن على وقع الحرب العنيفة يظل بالغ الأثر نحو تغيير جذري لمعادلات السلطة، بعد تفجير تناقضات دولة ما بعد الاستقلال التي شهدت مؤخرًا تجاريب مختلفة من احتجاج ثوري وشراكة ما بعد فض الاعتصام ومفاصلة انقلابية في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، ثم قيام حرب شرسة في الخامس عشر من نيسان/أبريل لم تزل على أشدها ضراوة وضررًا.
ومن عمق المواقف المشتعلة، وما يرد حولها من خطابات تعكس عنفوانها، بحسبان حكم الشيء فرع عن تصوره، يبرز سؤال ملح في أفق المعالجات المطروحة، وهو: على ماذا وكيف ستنتهي الحرب القائمة على رؤوس ما تبقى من مواطنين، وحول ممتلكات وأصول من نزح، أو ألجأه اللجوء إلى استئناف حياته بشروط أقل من طموحه، وأدنى من آماله؟ وهل من ثمن يوازي ما يقدمه في سبيل الحصول على أدنى مقومات الحياة الكريمة؟ في بلاد تعيش هول المفارقة بين إمكاناتها وممكاناتها، وتدفع تكلفة باهظة بسبب عجز نخبها عن اجتراح مسار إلى عقد اجتماعي جديد، يطرح القضايا التأسيسية على مائدة حوار مثمر منتج وبناء.