عثمان نواى يكتب سقوط نيالا وحروب الأنبياء الكذبة
بقلم: عثمان نواى
” هذه الارض لاتنبت الا الانبياء هذا القحط لا تداويه الا السماءهذه أرض اليأس والشعر، تحت هذه السماء الرحيمة الجميلة أحس أننا جميعاً أخوة.”
موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح
سقوط نيالا تصدر الاخبار الدولية بعنوان هام للغاية, وهو سقوط ثانى اكبر مدينة في السودان , بعد الخرطوم طبعا. وهذا العنوان, إضافة الى تركيبه الجاذب صحفيا, ولكن موضع الاثارة فيه ياتى من حقيقة يبدو ان النقاشات المحلية التي تناولت خبر سقوط نيالا وانسحاب الفرقة 16 تغاضت عنه تماما. وهى حقيقة ان نيالا هي “ثانى اكبر مدينة في السودان”. وهى معلومة ربما لا يعلمها كثير من السودانيين, فهى ثانى اكبر مدينة من حيث عددية السكان, كما ان التلاقح الاجتماعى جعل المدينة صرة دارفور الجامعة. إضافة الى انها ذات بعد استراتيجى لوجستى كما انها تجمع اقتصادى اساسى في غرب السودان. لذلك فان سقوط نيالا يجب النظر اليه على انه مرحلة جديدة من الحرب في السودان, ولكن انشغلت جدالات اللايفاتية ونجوم السوشيال ميديا وبعض السياسين والمثقفين بقصف الجبهات وتبادل الاخبار التي يتم تكذيبها لاحقا من احد الطرفين. وبعيدا عن سرديات تقسيم السودان او ضعف الجيش, فان الصورة التي نشاهدها للاحداث في السودان منذ اشهر لا تدعم سيناريو محدد بقدر ما انها تدعم سيناريو الفوضى. هذه الفوضى تنبع أساسا من تعمد كل الأطراف- الوالغة في الحرب عسكريا او سياسيا- لتزييف الحقائق وتبنى خطابات وسرديات تزيف الواقع وتهدف أساسا الى تضليل الناس وليس ” تنويرهم” بما يجرى.
فحرب السودان الحالية ستكتب في التاريخ على انها أكثر الحروب التي تم فيها استخدام الاخبار والسرديات الزائفة كجزء من اليات الصراع العسكرى والسياسى معا. هذا الاستخدام لتزييف الاخبار والسرديات للأسف لا ياتى من خبرة كبيرة في استخدام التكنولوجيا او السوشيال ميديا او حتى إدارة الحملات السياسية, بل على العكس تماما. هذا الزيف ياتى من تشوش المصادر ورغبتها الصادقة ” الوحيدة” في عدم إيصال الحقيقة للناس. فمن المثير للاهتمام ان يكون الدعم السريع من اوائل مستخدمى الذكاء الاصطناعى لتزييف الصور والفيديوهات, ولكن هذا الاستخدام بغض النظر عن من يقف وراءه هو نتيجة مباشرة لعقلية والية تفكير لا تريد للناس ان يعرفوا او يتعاملوا مع الحقائق او ان يدركوا الواقع. فلا يوجد حرب في العالم يتم جدل فيها حول ما اذا كان قائد احد القوتين العسكريتين ميتا او حيا. هذا مستوى من تزييف الواقع والهروب منه غير مسبوق ومثير للاشمئزاز عند التفكير فيه عمليا. ومن جانب اخر فان الخطابات الإعلامية والسياسية من جانب الجيش او حتى القوى السياسية سواء كانت كيزانية او قحتية, جميعا تتبنى خطابات تتجنب عرض مواقفها الحقيقية. وتحاول التغطى بخطابات طهرانية وطنية يسقط زيفها مع اى مقارنة بين الخطاب والفعل واحيانا بين الخطاب والخطاب نفسه. مما جعل التعامل مع الحرب الحالية في السودان في اطار صحفى او تحليلى جاد امر صعب للغاية, ان لم يكن مستحيلا. فالعقل الراشد لا يستطيع ان يحلل او يتفهم الا المعلومات والسرديات الحقيقية والواقعية. ولكن في ظل التزييف الكامل للواقع الذى نتلمسه في مجرى الاحداث والاخبار المتداولة والمواقف المعلنة من جميع الأطراف فان التعامل مع الاحداث لا يمكن وضعه في اطار علمى او صحفى او تحليلى عقلانى. فلا احد في الواقع السياسى والعسكرى الراهن مستعد للخروج من دائرة الواقع الافتراضى الذى خلقه عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعى وحتى نقاشات المثقفين او السياسيين. الجميع يرتدى نظارات واقع افتراضى للتعامل مع واقع على الارض فوضوى ومشوش. ويبدو ان الهروب الذاتي الى ذلك الواقع الافتراضى هو احد الوسائل الشخصية للبعض للتواؤم النفسى مع حجم الكارثة الذى ساهم الكثير من هؤلاء الهاربين منها في صناعتها, ومحاولة منهم للهرب من حقيقة تحملهم مسؤولية ما يجرى من مأساة فى ارض السودان.
ومما ساعد على حالة التزييف هذه, هو تغييب وسائل الاتصال والاعلام عن الاحداث على الأرض, فالحرب في السودان ليست متلفزة كما هي حرب غزة. بل هي حرب تجرى بعيدا تماما عن عدسات الكاميرات. ورغم وجودنا في عصر السوشيال ميديا, ولكن المنشور فعليا من داخل السودان من صور او فيديوهات تصور واقع الناس يظل ضئيل للغاية, وذلك لأسباب عدة. منها الشفشفة المستمرة لتلفونات الناس العادين وخاصة الشباب, والترهيب من قوات الدعم السريع والجيش للشباب والنشطاء والصحفيين في الداخل وخروج اغلب المصورين والصحفيين والنشطاء من البلاد, إضافة الى سوء شبكات الانترنت والاتصال. هذا اضافة الى عدم إيلاء وسائل الاعلام الدولية والإقليمية اهتمام كافى للسودان. اضافة الى انه حتى الجانب الحقوقى لرصد الانتهاكات على الأرض يتعرض لنفس دوائر الترهيب بل للتزييف أيضا في بعض الأحيان. اذن حرب السودان تجرى في فضاء مغلق تماما. مما سمح لكل الأطراف اطلاق سرديات في السوشيال ميديا لا تعبر عن واقع الاحداث بل تعبر عن خليط من ” المشاعر الخاصة والمصالح الشخصية المسيسة أحيانا, إضافة الى توجيهات جهات خارجية عديدة إضافة الى طموحات فردية او امنيات واهمة حالمة لمثقفين او سياسيين ,قليلها ممكن وأكثرها مستحيل.” لذلك اغلب المنتجات الإخبارية والفكرية والأوراق او التحليلات السياسية المنتجة من جميع الأطراف في هذه الحرب يجب ان تخرج مع ” disclaimer” الزامى مثل ما يحدث في تتر الأفلام ( هذه الاحداث و السرديات لا تمت بالواقع بصلة , ولا تتحدث عن شخصيات واقعية بعينها, واى تشابه بين الاحداث او شخصيات واقعية هو محض صدفة ولا يتحمل منتجو الفيلم اى مسؤولية عنه.” وهذه العبارة الأخيرة هي بالذات ما يسعى اليه معظم الفاعلين السياسيين والعسكريين في السودان وهو ” عدم تحمل المسؤولية عن اى مما يجرى الان”. ويكاد يكون التهرب من المسؤولية ومحاولة البعض وصف هذه الحرب بالعبثية, حتى من قيادات الحرب نفسها, هو احد اهم مؤشرات هذا الهروب المتعمد من المسؤولية. وفى أجواء الهروب من تحمل المسؤولية هذه, فان اى احتفاء بانتصار او الحزن على هزيمة يعد ” عبثى” بالنتيجة. ويدور رحى هذه الحرب في الواقع, ولكن من قبل قيادات عسكرية وسياسية غير ناضجة ويبدو كانهم مجموعة مراهقين يلعبون العاب فيديو يحركون فيها مسيراتهم التي خرجت من شاشات الكمبيوتر واصبحت تضرب في الواقع, ولكنهم يريدون انكار هذه الحقيقة.
لا يكاد المرء يصدق ان الحلول السياسية تخرج بهذا القدر من عدم المسؤولية من مثقفين وسياسيين يعتقدون انهم صناع الحل والعقد, فيخرجون بقائمة أماني ومجموعة من المطالب وصياغات تبدا ” ب يجب” ولا تنتهى بكيف او متى او من الذى سيحقق كل تلك الموجبات. ومن ناحية أخرى تجرى مفاوضات تتعلق بها أرواح السودانيين املين في السلام, ولا يخرج لهم احد يطمئنهم او يشركهم في واقع حياتهم او احتمالات مستقبلهم التي نخشى ان تكون مظلمة جميعا. وبين دفتى الامال والظنون, وعبثية القادة السياسيين والعسكريين ودموية صراعاتهم, يقع شعب كامل في فخاخ جهله, ورغباته في تصديق قدوم الخلاص من المهدى المنتظر الذى كان دائما وهماً سواء قبل 150 عاما او الان. ويسخر التاريخ من السودانيين بتكرار نفسه, ولكنهم لازالوا لا يعون. فقد اتاهم دراويش المهدى في ثياب مرقعة وقالوا لهم سنحرركم من الاتراك, ولكنهم حرروهم من الحياة كلها. فما بقى من الشعب السودانى بعد انتهاء المهدية الا ثلث سكانه الذين عاشوا قبلها. واتاهم اليوم اشاوس الدعم السريع يدعون حماية الديمقراطية وتحرير الشعب من الفلول, وكتائب البراء والمجاهدين يريدون تحرير الوطن من المليشيا, وما نجح لا هؤلاء ولا هؤلاء, بل هجر السودان خمس سكانه في 6 اشهر, ربما الى غير رجعة الى ارضه. ولقد نسى العالم السودان سنين عددا زمن المهدية لانشغاله بقضايا اهم, وعندما انتبه جاءنا احتلال ثنائى. و بما اننا شعب لم يتعلم من تاريخه ولا زال يصدق الأنبياء الكذبة, سواءا في السوشيال ميديا او كتيبات واوراق المثقفين وفيديوهاتهم او خطابات السياسيين او وعود انتصارات العسكريين, فكما ان الدمار الحالي اشد واكبر من قبل 150 عاما , فان الاحتلال القادم ربما يكون رباعيا او خماسيا, وحينها لا يهم ان كان السودان دولة او دويلات, المهم انه لن يكون الوطن الذى كنتم اليه تطمحون حين خرج شباب ديسمبر. ان قتامة المشهد تاتى من اظلام العقول التي تتوهم إدارة الواقع الراهن في السودان. في حين انها غارقة في اوهامها الذاتية وهروبها الشخصى من مسؤوليتها في تضييع وطن بأكمله. ان ما هو قادم لا يبشر بخير ان لم ينتفض جيل جديد وينتزع حقه في الحياة من أيادي الأنبياء الكذبة في جميع الأطراف. فكما قال الطيب صالح في رواية موسم الهجرة الى الشمال, ان صحراء تلك البلاد لا تنجب الا الأنبياء , ولكنه غفل عن كونهم قد يكونوا حقا انبياء ” ولكنهم حتما كذبة”.
osman.habila@gmail.com