ماسر البيان المصري ؟ هل تحاول مصر صرف الأنظار عن ظهور”حميدتي” أم ترسل إشارات بتصعيد محتمل ..؟!
تقرير : سليمان سري
في خضم الأحداث الجارية والاهتمام المتزايد بقضايا الحرب والتهديدات الأمنية التي يواجهها المواطن السوداني وتدهور الوضع الإنساني، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا صحفيًا تحصل عليه “راديو دبنقا” يتعلق بإجلاء رعاياها من السودان، البيان يضع علامات استفهام ويثير تساؤلات حول مغزاه وتوقيته كلها رسائل غير واضحة تحمل مؤشرات، حيث يتزامن صدوره مع الجدل الدائر حول لقاء رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ “حميدتي”، وفي أول ظهور له خارج السودان بعد الجدل الكثيف الذي أثير حول وفاته نتيجة لإصابته في إحدى المعارك، وقناعة فلول النظام السابق بتلك الشائعة التي أقنعوا بها الكثيرين، ثم زيارته إلى كل من كمبالا واجتماعه بالرئيس اليوغندي يوري موسفني والعاصمة الإثيوبية أديس أبابا ولقائه الرئيس آبي أحمد والتوقعات بجولة أفروعربية.
البيان لفت انتباه الصحفيين وبعض السياسيين المتابعين وتوقف عنده كثيرون ليس لأهميته وإن كان يحمل البعد الإنساني، بل لمغزاه، توقيته وأسباب نشره والاهتمام بهؤلاء الرعايا بعد 9 أشهر، والرسالة التي تريد مصر أن ترسلها سواء للسودان أو لدول المنطقة أو المجتمع الدولي، خاصة وأنها أجلت رعاياها بالكامل في الأسابيع الأولى منذ اندلاع الحرب بما فيهم الأسرى العسكريين في مدينة مروي بالولاية الشمالية وقاعدة وادي سيدنا، ولم تصدر أي بيان بشأن الإجلاء سوى تصريحات محدودة تتعلق بعملية المتابعة والحصر، ولم تطلق تحذيرات بعدم الذهاب إلى السودان كما ورد في البيان.
إجلاء الرعايا:
بالرغم من أن عملية الإجلاء قد تمت بالفعل بحسب البيان حيث قال إنَّ سفارة جمهورية مصر العربية بالسودان، نجحت في إجلاء عدد 18 طالباً وطالبة وبعض من أولياء أمورهم من العالقين في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة السودانية، التي امتدت إليها الاشتباكات المسلحة مؤخرًا.
وذكر البيان أنه تم التنسيق مع السلطات السودانية لتأمين إجلاء الطلاب المصريين من المدينة ووصولهم سالمين إلى مقر القنصلية المصرية في بورتسودان وتسفيرهم إلى الحدود المصرية وصولاً إلى أرض الوطن.
لكن الفقرة الأخيرة في بيان وزارة الخارجية فكانت غريبة حيث دعت جميع المواطنين المتواجدين في السودان بكافة الولايات، بما في ذلك التي لم تصلها الاشتباكات المسلحة، بسرعة مغادرة السودان، وعدم سفر أي من المواطنين المصريين إلى السودان في المرحلة الحالية تحت أي ظرف حفاظًا على سلامتهم.
برغم أن الخارجية لديها قنصليتيها في بورتسودان ووادي حلفا ولازالت حركة نقل البضائع مستمرة بين البلدين بواسطة سائقين مصريين، على العكس من ذلك فإنَّ رصفائهم السودانيين لا يتمتعون بذات الحق في التنقل والحركة فقد قلصت مصر فترة التأشيرة وبدلًا من تأشيرة متعددة أصبحت بشروط قاسية للطرف السوداني تأشيرة لمرة واحدة يتم التصديق بها بعد شهور.
نذر تصعيد محتمل:
لكن، البعض رأي بأن مصر أرادت أن ترسل رسالة ما بخطورة الأوضاع في السودان أو أن هنالك تصعيد عسكري محتمل وسيكون الأخطر من ما مضى، وأرادات أن ترسل هذه الرسالة بالتزامن مع ظهور قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، لكن ربما يقول قائل إنَّ هذه المعلومات لديها قنواتها الرسمية التي يمكنها أن توصلها لها، خاصة أن مصر موقفها غير محايد بل داعم للجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان.
يتفق الـ د.صلاح الدومة أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية بجامعة أم درمان الإسلامية مع هذا الاتجاه، ويعتبر أن إجلاء الطلاب المصريين وأولياء أمورهم أمر طبيعي، في ظل الوضع الحالي في السودان وولاية الجزيرة على وجه الخصوص وما شهدته مدينة واد مدني من أحداث.
ويقول الدومة في اتصال هاتفي مع “راديو دبنقا”: إنَّ بقية البيان ينم على تعقد الأمور في السودان في المستقبل القريب، ويضيف: أستطيع أن أقول وأكرر الآن أن البيان دليل على خطورة الأوضاع، ويرى أن بيان الخارجية المصرية قد يكون متزامن مع ظهور حميدتي كواحد من الأسباب، لكن السبب الأكبر طلب تأجيل اللقاء من قبل الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا “إيقاد”، ويشير إلى أن الدعم السريع طلب من رؤساء الدول حضور اللقاء خوفًا من تنصل من وصفهم بـ “الكيزان” المسمى بالجيش السوداني، من الاتفاق كما سبق وأن تنصلوا في جدة وأديس أبابا، وجيبوتي كما وضح في بيان وزارة الخارجية السودانية بعد ما أقر البرهان على أمرٍ بشهادة رؤساء دول، فالدعم السريع لا يضمن مصداقية “مليشيا الكيزان”.
وتوقع الدومة الذي شغل أيضًا منصب المدير السابق لمعهد الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية التابع لجامعة أم درمان الإسلامية، أن يصعَّد الدعم السريع من عملياته ويحصل على مزيد من المكاسب في الميدان على المستوى التكتيكي والاستراتيجي والاقتصادي، ويجزم بأنه سيحجم مليشيا الكيزان أي الجيش لأقصى درجة، ويعتقد أن الغرض من ذلك يكون اللقاء في جيوبتي وحضور رؤساء الدول إذعان واستسلام من “مليشيا الكيزان” أكثر مما هو لقاء بين طرفين في الوضع الحالي، ويقول إنَّ هذا التوقع في إشارة إلى بيان الخارجية المصرية، طبيعي ومصر يمكن أن تتوقع ذلك بل كل الاستراتيجيين والمحللين يتوقعون أن الدعم السريع سيصعَّد تصعيد شديدًا من عملياته وسيحصل على مكاسب كما ذكرت آنفًا.
إجلاء الرعايا مؤشر للتصعيد:
وتطابقت وجهة نظر الدكتور عمرو الشوبكي المستشار في مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مع د. صلاح الدومة، ويقول الشوبكي في اتصال هاتفي مع “راديو دبنقا”: إنَّ مسألة إجلاء الرعايا دائمًا ما تكون مؤشرًا على تصاعد المواجهات والاشتباكات في مناطق النزاع، ويضيف: عادة حين تقرر مجموعة أو عدد من الدول سحب رعاياها وإجلائهم من أحد الدول التي تشهد صراعًا مسلحًا عادة ما يكون هناك مؤشر ليس خيرًا، على أنه هنالك تصاعد سيحدث في المواجهات المسلحة، ويشير إلى أن ذلك حدث في السودان في بدايات المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ويقول المستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بأنه صحيح أن تقرر وزارة الخارجية المصرية في بيان بعد 9 أشهر إجلاء رعاياها، ولكن هذا تم بعد أن انتقل الصراع إلى مناطق وولايات كانت تأوي نازحين من أماكن أخرى باعتبارها مناطق آمنة، كما جرى في مدينة واد مدني بولاية الجزيرة وأماكن أخرى، انتقل إليها الصراع الدموي والمواجهات المسلحة.
ويرى الشوبكي أن البيان صحيح جاء قبل تأجيل لقاء قائدي الجيش والدعم السريع، لكن في كل الأحوال كل ذلك يصب في اتجاه أن الوضع في السودان، وحتى في بعض المناطق التي كانت آمنة يتجه نحو التدهور، خاصة بعد اخفاق أكثر من محاولة لإيجاد مخرج سياسي سواء كان مسار جدة أو لقاء القمة الذي كان سيعقد اليوم بين قائدي الجيش والدعم السريع وتم تأجيله إلى بدايات العام المقبل.
تخفيف الضغط الإعلامي:
لكن البعض يرى عكس ذلك بل أنها محاولة لصرف الأنظار وتشتيت الانتباه عن هذا الاهتمام المتزايد لقائد قوات الدعم السريع، وتوجيه الرأي العام في اتجاه آخر.
يدعم هذ الاتجاه الصحفي كمبال عبدالواحد الذي أبدى استغرابه من توقيت البيان الذي خرج بالتزامن مع ارهاصات اللقاء المزمع قيامه الخميس في جيبوتي، بين ما وصفهم بجنرالات الحرب البرهان وحميدتي واصفًا إياه ببيان تنفيس الضغط الإعلامي على الحدث.
ويشير كمبال في حديثه لـ”راديو دبنقا” إلى أن الخارجية المصرية في الأسبوع الثاني من الحرب، قد أعلنت إجلاء جميع الرعايا المصريين من خلال بيانات رسمية، بعد تداعيات حادثة احتجاز الجنود المصريين في مطار مروي بالولاية الشمالية من قبل قوات الدعم السريع.
ويشير الصحفي كمبال إلى، اتجاه آخر على نحو مشابه، عن وجود بيان صادر من وزارة الخارجية التركية بتاريخ 28- ديسمبر يحمل ذات الإشارات للرعايا الأتراك تم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي في ذات التوقيت مع بيان الخارجية المصرية.
ويرى كمبال أن الموقف المصري الداعم لانقلاب 25 اكتوبر 2021 والمتورط في عمليات القصف الجوي، كما أفادت عدد مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية بناءً على معلومات استخباراتية، من الممكن جدًا أن يقدم خدمات (إعلامية)من أجل حليفه البرهان خاصة بعد تقهقر الأخير ميدانيًا و تعالي أصوات الاستهجان من الشارع، وسط الضغوط المبذولة من حاضنة الأخير السياسية تنظيم الحركة الإسلامية الرافض لوقف الحرب.
ويلفت كمبال الانتباه إلى وجود عدد من القنوات الإعلامية والمواقع المشكوك في مصداقيتها، والتي قال بأنها روجت لعدد من البيانات خلال الفترة السابقة في إشارات واضحة لوجود خطاب إعلامي موجه و ممنهح.
لايوجد كارثة أكثر من هذه:
غير أن د. عبد الناصر علي الفكي أستاذ علم الاجتماع السياسي يستبعد وجود أي رابط بيان الخارجية المصرية وظهور قائد قوات الدعم السريع، برأي يخالف رأي الصحفي كمبال عبدالواحد ويقول عبدالناصر في اتصال هاتفي مع “راديو دبنقا” ليس هناك علاقة بين ظهور حميدتي وبيان الخارجية المصرية حول إجلاء الرعايا المصريين، ويعتقد أن الدعم السريع يحاول باستمرار الظهور بوجه مختلف نسبة للانتهاكات الكبيرة التي ارتكبها في الحرب وإلى الآن بمدينة مدني.
ويشير إلى أن ظهور حميدتي هذا أصلًا ليس الأول له وثانيًا الدولة المصرية أيضًا توجه رسالة للداخل، للحكومة السودانية، بانهم حريصين علي المواطنين المصريين وأمنهم وسلامتهم.
المؤشر، كما يرى عبدالناصر، أن الحرب في اتساع وانتشار بما يجعل خطرها أصبح ماثلًا وحقيقة، وهذا وضح فيما حدث بمدينة ود مدني حيث نزوح ولجوء آلاف السودانيين تجاه دول الجوار.
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي: كذلك الواضح للعيان أن الدعم السريع يتعاون بصورة جادة مع المنظمات والدول، في الإجراءات الخاصة سواء الخروج الآمن أو وصول المساعدات الإنسانية، بينما نجد في الجانب الآخر كل المعوقات لذات الإجراءات من جانب الجيش، وهذا وضح في الاعتداء علي عملية الإجلاء لموظفي الصليب الأحمر بمدينة الشجرة بالخرطوم، ويؤكد أنه سبق للدعم السريع أن أفرج عن الأسري الطيارين التابعين للجيش المصري في مدينة مروي في الأيام الأولى لاندلاع الحرب.
وقلل من أن يكون البيان يحمل رسائل تحذيرية من تصعيد محتمل، يعتقد بأن ليس هناك وضع كارثي أكثر من الذي حدث ويحدث والجيش ومن يقف معه من “مليشيات الكيزان” وضعهم الميداني ضعيف، “على حد تعبيره”.
ويعتقد د. عبدالناصر استاذ علم الاجتماع السياسي أن الحرب أصبحت الآن تستخدم فيها كل أساليب العمل الإعلامي من شائعات وتعبير بما يتماشى مع العمل الميداني العسكري، وصناعة صورة ذهنية مقبولة للداخل السوداني والخارج الدولي والإقليمي وكذلك للمقاتل ورفع الروح المعنوية.