حمّور زيادة يتحدث عن السيناريو الأسوأ ويكتب حروب السودان الكُبرى
“السيناريو الأسوأ، أن يصبح السودان نسخة جامحة من الصومال لمدة 20 أو 25 عاما”. المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان توم بيرييلو.
يمكن أن يرى الناظر إلى حرب السودان حروباً عدّة تخاض في وقت واحد. ربّما تبدو أقرب إلى حروب رئيسة، وإلى بعض حروب فرعية. وهو تعقيد إضافي مع أزمة تعدّد “أطراف الصراع”، حتّى لم يعد طرفا الحرب الرئيسيَّين الفاعلَين الوحيدَين فيها، وهذا نمطٌ معروفٌ يظهر في كلّ الحروب الأهلية في العالم.
أول الحروب معلومة بين الجيش وقوات الدعم السريع. وهي حربٌ سلطوية، جوهرها الحكم، بعدما وصلت شراكة طرفي المجلس العسكري الحاكم إلى نهايتها. الشراكة التي دشّنها قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتّاح البرهان، في أول يوم من وصوله إلى السلطة، بترقية قائد قوات الدعم السريع وتنصيبه نائباً له، استمرّت حتّى ما بعد 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، عندما نفّذا انقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية الانتقالية، فكانت آخر ورطة باعدت الشقّة بين الشريكَين. وتشغل هذه الحرب بال الطرفَين، فيرفض الجيش وساطات دولية، ويخوض معاركَ مع المجتمع الدولي، محاولاً الحصول على اعتراف بشرعية ممارسته السلطة، ويُؤكّد أنّه لن يسلّمها لأحد. بينما تقاتل “الدعم السريع” محاولة الحصول على نصيب مما يبدو أنّها فقدته، وإلى الأبد. هذه، تبدو أقل الحروب تعقيداً، ويمكن أن تنتهي بانتصار طرف أو بتوقيع اتفاق سلام.
هناك حرب عِرقيّة تخوضها قوات الدعم السريع ضدّ مواطني الإثنيات غير العربية في دارفور، مثلما فعلت في مدينة الجنينة الحدودية، عندما استهدفت أبناء قبيلة المساليت؛ قتلت المدنيين ودفنت بعضهم أحياءً، وذلك تحت شعار “هذه الأرض لم تعد ملكاً للعبيد، إنّها ملك للعرب منذ اليوم”. هذه حربٌ تريد إزالة مجموعة من السكّان، لن تنتهي بقرار، ولا يمكن التحكّم في آثارها، وتحتاج، إن توقّفت، لعملية مُحاسبة ومصالحة مجتمعية واسعة. تشغل هذه الحرب بال المجتمع الدولي أكثر من غيرها. فهي مفهومة، ولا تتغير فيها المعادلات القديمة منذ 2003 إلّا بشكل يسير. ما زالت هناك هجمات مُسلّحة من القبائل العربية ضدّ القبائل الأفريقية بقصد التهجير القسري والإبادة.
هناك حرب أشبه بالجريمة المُنظّمة شنّتها قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة. حرب نهب وسرقة أقرب إلى حرب العصابات المُنظّمة، حتّى أنّ بعض المناطق شهدت تهديداتٍ مماثلة لتهديدات عصابات المافيا. طلب جنودٌ من “الدعم السريع” من التجّار دفع مبالغ ماليّة نظير الحماية، ومن لم يستجبْ كان الجنود يلقنونه درساً يُؤكّد له حاجته إلى حماية مُسلّحة. في هذه الحرب نهبت عشرات الآلاف من السيارات، ومئات الآلاف من المنازل، وتعرّض المواطنون للترهيب والإذلال والاعتداءات الجنسية والجسدية، وصولاً إلى التصفية والاغتيالات.
هناك حرب رابعة، تخوضها الحركة الإسلامية السودانية، تريد فيها العودة إلى السلطة على أكتاف الجيش مرّة أخرى. في هذه الحرب، ترى الحركة الأسلامية أنّ الثورة الشعبية ضدّها مزيج من مؤامرة دولية خارجية وخيانة أمنية داخلية. تساهم الحركة الإسلامية في الحرب عبر كتائب منسوبيها (مليشيات مدنية عقائدية، مدّربة على حمل السلاح، ولها تنظيم قيادي عسكري)، لكنّها تخوضها حرباً مُقدّسة، هدفها ألا يصل خصومُها إلى السلطة. وهي في سبيل ذلك، تقوم بأكبر عملية غسيل سمعة وتزييفٍ، في محاولة لجعل كلّ خيارات التحوّل المدني الديمقراطي والتغيير السياسي محاولاتٍ مدانة، ومحرّمة، ذاق الشعب نتائجها وبالاً (!) وهذه الحرب تشغل بال بعض القوى السياسية المدنية بشكلٍ يجعلها تراها الحرب الرئيسية، التي تهون في جانبها بقية الحروب (!) فتتّخذ مواقفها وعينها على الحركة الإسلامية.
يختلط مع هذه الحروب كلّها صراع نفوذ دولي ينظر إلى السودان ساحةَ معركةٍ بين خصوم أكبر. يضاف ذلك إلى “الحرب المُتخيّلة”، وهي حربٌ تدور في أذهان مجموعات من المُتقاتلين في الطرفَين الرئيسيَّين للحرب، وعند الأقلام الداعمة لهم. هذه الحرب المُتخيّلة هي قتال “الدعم السريع” ضدّ دولة ما بعد الاستقلال وإرثها لبناء دولة مساواة ديمقراطية، أو حرب السيادة الوطنية، التي يخوضها الجيش الوطني ضدّ غزو أجنبي.
يجعل تنوّع الحروب وأهدافها، وهي غير محصورة في النماذج الواردة في المقال فقط، مع تنوّع المُنخرطين والفاعلين وأهدافهم، فكرة الوصول إلى حلّ جامع للأزمة، يُرضي الأطراف كافّة، غير منظورة، لكنّ للحروب طرائقها في إقناع الناس بعد فوات الأوان.
حمّور زيادة
كاتب وروائي سوداني