الرؤية نيوز

الطاهر محمد علي يكتب:الأبيض عروس الرمال .. حينما تشّعُ ذكراها ..

0

الأبيض عروس الرمال .. حينما تشّعُ ذكراها .. الحلقة “العاشرة”
فؤاد حمزة تبن .. رائد التصوير الفوتغرافي ورسام الذكريات
= بقلم: طاهر محمد علي طاهر

يتربع بالفن سحراً وإبداعاً من خيال مجنح، يرسم وجهاً، جسداً، جمالاً من هالات النور، وفسيفساء الألوان، يسكب من روحه دفق اللحظة المبهرة ليصنع مهرجاناً من ارتحالات السحاب، وذكريات المطر، ومتى ما دارت رحلة الزمان وعدت إليها، عرفتَ أَن شوقك القديم قد صحا، ما استراح لحظة أو انمحَى.
فؤاد حمزة تبن.. هو من منحَنا لحظات الحلم الجميل، وأهدانا تذكارات الأحبة، وومضات طفولتنا وصبانا، أفراحنا ولمّـتنا، لينال شرف التوثيق لتاريخنا الاجتماعي.. والسودانيون شغوفون بالصور والتذكارات منذ زمان بعيد، حتى في القصائد والأغنيات، وهذا حسن الزبير يسجل في قصيدته قصة صورة وعتاب حبيبين:
صورتك الخايف عليها.. ونحن ما خايف علينا
هاك بي تذكارا شيلها.. وشيل معاها الفي عينينا
فيها أيه إنسان بعزك لما يحفظ ليك صورة !!
فيها قامتك.. وابتسامتك.. وسحر عينيك الخجولة
فيها راحة.. وفيها واحة.. كل ما يتعب يزورا ..
أما الحلنقي فقد أهدانا أغنية الصورة التي غناها وردي:
توعدنا وتبخل بالصورة
يا غنوتنا
يا بهجتنا
ويا مرسى عيونا المبهورة
ما نحن بطبعنا ناس طيبين
غلطاتك عندنا مغفورة..
منذ ميلاده في العام 1952م بمدينة الأبيض، نشأ فؤاد حمزة تبن، وهو يحمل بذرة الإبداع في كتابة الشعر، وإجادة الخط العربي، وموهبة “التصوير الفوتغرافي”.
نشأ فؤاد في حي الربع الثاني لوالد كان مصدر رزقه تنجيد مقاعد ومستلزمات اللواري السفرية، ووالدة صبورة هي الحاجة نفيسة إبراهيم التي اجتهدت في تربية إخوته الذين راحوا ينالون حظهم من التعليم في مدارس الأبيض، ويضربون في فجاج الأرض، تعددت مواهبهم إذ عرف محمد حمزة “كجنكي” بمهارته في كرة القدم حتى صار حكماً معروفاً، وأحمد “كرك” أيضاً الذي تألق في الملاعب الخضراء، إلى جانب إبراهيم وأنور وصلاح ومجدي تبن، وله من الشقيقات عائشة وفريدة، ومواهب، ويتجلى خياله وعوالمه المتفردة في تسمية ابنائه بمسميات قد تراها غريبة مثل “والبة، واجن، فتح العليم، وحمزة، والبنات “جوشن وفيقن”، ليترك لك فكرة البحث عن المعاني.
بدأ حلمه من خلال مشروع إبداعي صغير اختار له إسم “مواهب” تيمناً بأصغر أخواته، وأختار له أكبر شوارع المدينة “شارع النهود” ولم يدر بخلده أن هذا الأستوديو يمكن أن يحقق له شهرة واسعة، وقيمة فنية باذخة بالتوثيق للأسر والعائلات والشخوص والأحداث.
في مطلع السبعينيات وتحديداً في العام 1973 انطلق “استوديو مواهب” ليصبح محطة هامة، وموروداً للذكريات التي أغرقت بيوت المدينة حتى اليوم، وبعد أكثر من خمسين عاماً أضحى انتاجه انموذجاً سودانياً في مجال التصوير الكلاسيكي، المرتبط بالحرية الهادئة والمزدهرة وقتذاك، حيث يتصف تصويره بالأناقة​​، مع خلفيات عادية، وأوضاع براقة، فساتين جميلة، وقمصان مزركشة، وأضواء فلاش بسيطة، هكذا وصفه النقاد بعد أن شاعت تلك الصور الورقية إلى مصاف العرض في دول أوروبية عدّة، ومع ذلك كان يطمح فؤاد تبن أن يتم الاعتراف به كفنان حقيقي في السودان مع تطور أدواته وأسلوبه في التصوير، ووصل حداً لإعمال مهاراته في تلوين الصور” الأبيض والأسود” في زمن لم يكن يعرف فيه التصوير الملون.
والتصوير كان مهنة راقية يمارسها أصحاب الحس الرفيع في الأبيض أمثال فؤاد، وصابون صاحب “استوديو غاندي”، ومحمد يحى عيسى
“استوديو عروس الرمال”، وأبناء الحاج عبدو، وأستوديو العائلات بحي فلاتة، إلى جانب المصور عباس حبيب الله عبداللطيف مصور إقليم كردفان الرسمي الذي عاصر معظم الأحداث المهمة بعدسته من زيارات الملوك والرؤساء، وله أرشيف ضخم غذى به وزارة الثقافة والإعلام من خلال تجواله في الحلّال والفرقان وقرى كردفان البعيدة، ومتابعة القبائل والرّحل بعاداتهم وتقاليدهم، وما قدمه عباس يصعب تكراره، متمنياً أن تحرص الولاية على تصنيف هذا الجهد وأرشفته، وهناك المصور عثمان حامد خليفة الذي يعتبر من المصورين المستقلين وظل يسافر في جميع أنحاء البلاد ويقدم خدماته للاستوديوهات والمختبرات في طريقه، ويبدو أن آخر مشاويره كانت في استوديو مواهب عام 1999م، بعد ذلك انتشرت الأستوديوهات في فضاءات الأبيض مثل أستوديو “الجيلي” لصاحبه الجيلي زين العابدين الطيب، و”تاجوج” للمصور أبشر أدم حامد وغير ذلك الكثير.
استوديو مواهب كان يطل على “شارع النهود” المحتشد بالناس جيئة وذهابا، تزينه فترينات لصور الحسناوات، يتحلق حولها الناس لمشاهدة وجوههن الباهرة بالحسن والجمال الطبيعي، والأناقة التي تبعث على التأمل، وتنساب من داخل الأستوديو أصوات الموسيقى، والغناء الطروب، كشكول من أغنيات ذلك الزمان، تسمع الموسيقى الهندية الهادئة، أو صوت العميد أحمد المصطفى، أو العاقب محمد الحسن، وفيروز وأم كلثوم وعبدالحليم.
خلف غرفة التصوير بوابة تفضي بك إلى حديقة غناءة واسعة يتخذ فيها فؤاد معمله المشترك مع مجمع عيادات الدكاترة، القائم بمنزل عمنا بشير أحمد سليمان، ولعلنا بحكم الجوار كنا نتسلل عبر فتحة في الحائط المشترك بين منزلنا وتلك الحديقة لنقتطف مالذ وطاب من “الجوافة والتوت والقشطة والمانجو”، وأحياناً نشاهد فؤاد يمارس هوايته في إصطياد “القُمري” بالنبال، ويهدينا من صيده الثمين وكرمه النبيل، وله اهتمامات أخرى بالزراعة، وحال فراغه من إنجاز عمله يحكم إغلاق المعمل، وفي المرات القليلة التي ينساه مفتوحاً ندخل خلسة للإطلاع على خبايا هذا الدهليز، نجتهد لمعرفة ماتحتويه الأحواض الممتلئة من مواد كيمائية مرتبطة بعملية تحميض الأفلام عبر مواد التظهير والتثبيت للسالب أو ما كنا نسميه” العفاريت” وطباعتها على ورق التصوير ونشره على حبل وتثبيته بمشابك حتى تجف، ومن ثم وضعها على سطح ساخن مضغوط بقماش سميك، وكل ذلك يتم تحت إضاءة حمراء خافتة دون تسرب الضوء الطبيعي.
كان يدير الاستوديو في غياب فؤاد مساعده صلاح يوسف مراد المولع حدّ الوله بالثقافة والأفلام الهندية، وإلى جانبه مجدي تبن، وكلاهما تشبع بلمسات وعلم أستاذهما ومعلمهما فسارا على الدرب، واحتفظا بسمعة الأستوديو الجيدة حتى رحلا رحمهما الله، وأنضم إليهم ثالث كان ضمن الإدارة يسمى محمود العربجي.
كان فؤاد صاحب همّة لاتفتر، تصحبها الطرفة المليحة والابتسامة، والرقة الحاضرة التي تمثل عنوان شخصيته التي رسمت تاريخاً عريضاً في كتاب المدينة العروس، صديقاً للناس كل الناس، محباً لهم، تجد عنده في الأستوديو كثير من خلق الله، ونجوم المجتمع، منهم على سبيل المثال أبناء خالته، فتحي طمبل وشقيقه جودة وهما من الشخصيات الفنية التي برعت في إجادة الإيقاعات وكانا ضمن فرقة فنون كردفان، ويجمع أولاد طمبل بين الظرف والسخرية لكنهما لم يجدا حظهما من التوثيق والظهور الإعلامي، وكان من رواد الأنس الذين يجمعهم فؤاد أمام الأستوديو محمد عبدالله الضو، وعمر بشير أحمد سليمان، وعبدالله الهِدي، وعزام حسن أبّو، وعبدالمنعم محمد سلمان، وياسر محمد توفيق، والفنان عدلي عنبر الذي تجمعه مع فؤاد صلة الدم فهما أبناء عمومة، بالإضافة إلى عيون كديس “الخطاط”، والشاعر عبد العزيز أحمد عبد العزيز، وبعض شعراء رابطة أصدقاء الكلمة التي أسهم فؤاد في تأسيسها مع ثلة من الشعراء الأفذاذ، ومن الطرائف أن المؤانسين ينسحبون من أمام الاستوديو ويتفرقون عندما يكون هناك تصوير للعرسان تنفيذاً لتوجيهات فؤاد الصارمة وإلاّ نالهم الطرد..
لدّي فؤاد علاقات واسعة مع مجموعة من المحامين كانوا بمثابة أصدقائه منهم الفاضل حاج سليمان، وعلم الدين جعفر، والسر مكاوي، وصديق عبدالباسط، يحي عبدالكريم، مولانا يوسف حسن، وعباس الكبجابي، وكثيراً مايدخل معهم في نقاشات قانونية يخيل إليك أنه دارس للقانون لكنها ثقافته الموسوعية التي يتمتع بها.
في العام 2005 أسس المصور الفرنسي كلود إيفيرني مؤسسة النور وهي مؤسسة غير ربحية تعمل في الوقت نفسه وكالة تصوير ومكتبة تضم أكثر من عشرين ألف صورة، و12 ألف صورة سلبية ومطبوعة من العام 1890 وحتى يومنا هذا، إلى جانب العديد من الكتب والأفلام والوثائق الأخرى بهدف حفظ ونشر الفصول غير المعروفة من تاريخ التصوير الفوتوغرافي الأفريقي.
المصور الفرنسي كلود الذي سجل زيارته الأولى إلى السودان في العام 1999م للتعرف على تاريخ التصوير الفوتغرافي، توجه إلى مدينة الأبيض في رحلته الثانية ليكتشف استوديو محمد يحيى عيسى “عروس الرمال”، وعبره بدأت سلسلة التعرف على بقية المصورين أمثال فؤاد حمزة تبن، وعباس حبيب الله.
أطلعه فؤاد تبن على مجموعة من أعماله في فترة السبعينيات، حيث أشار الفرنسي إلى أنه اكتشف كنوزاً وطنية مخفية في الغرف الخلفية لتلك المحلات، وفي أماكن رطبة وخانقة ومليئة بالغبار، وغالبًا ما جعلتني أشعر بأنني أستطيع سماعها وشمها “هكذا تحدث كلود”.
نشرت المؤسسة صور فؤاد حمزة تبن ضمن كتاب ” Afriphoto 2″ وهو من أربعة مجلدات في العام 2005، ويقدم هذا الإصدار المشترك نظرة أخرى على القارة الأفريقية، ويتضمن أيضاً صوراً للمصور محمد يحيى عيسى، عمر داود، مالك سيديبي، بيل اكوابيتوتي، الناشر Filigranes، وتم عرض تلك الصور النادرة في ذات العام بمعرض “لقاءات باماكو” في دولة مالي، بالإضافة إلى فرنسا 2005 و2012، وبلجيكا 2007، وضمن فعاليات معرض أقامته مؤسسة الشارقة للفنون في العام 2017 لتسليط الضوء على أعمال المصورين الرواد، أمثال جاد الله جبارة والرشيد مهدي، فؤاد حمزة تبن، عباس حبيب الله، ومحمد يحيى في سياق الروابط التاريخية بين التصوير الفوتوغرافي وإنهاء الاستعمار والتمثيل الذاتي.
ولعل الصورة التي سميت بـسيدة الشمس لفؤاد من أرشيف “استديو مواهب” التي التقطها لإحدى السيدات في العام 1975 وجدت شهرة ورواج كبيرين عبر الأنترنت وفي المعارض المختلفة التي عرضت فيها..
ومع التغيير الديمغرافي للأبيض، واختلاف المزاج العام، وتطور التكنلوجيا وأدواتها خفت بريق الأستوديو شيئاً فشيئاً، حتى فارق فؤاد الحياة الدنيا في مارس من العام 2020، ليتوسد ثرى المدينة التي أحبها وأحبته، مبكياً على سنوات عمره النضيرة التي قدم خلالها جهداً إبداعياً من خلاله حكايته مع الفن والحياة والناس..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!