عن مقدّمات الحرب في السودان وأبعادها
قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، آفي ديختر، في محاضرة له سنة 2008، إن تقديرات إسرائيلية منذ منتصف الخمسينيات توصي بعدم السماح للسودان بالتحوّل إلى قوة في العالم العربي، باستثمار موارده في جوّ من الاستقرار. وهو ما أشارت إليه وزيرة الخارجية غولدا مائير سنة 1967، حينما صرّحت بأن إضعاف الدول العربية واستنزاف طاقاتها هما من قبيل تعزيز الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما حدث حقيقة عقب إشعال الحرب الأهلية في إقليم دارفور سنة 2003، وحرب أهلية أخرى انتهت بفصل الجنوب عن السودان سنة2011، ليتواصل مخطّط تفتيت السودان بإشعال فتيل الحرب الدائرة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في إبريل/ نيسان الماضي، ولم تحسم بعد أزيد من ثلاثة أشهر من الاقتتال. هل للكيانات الدولية علاقة بالحرب؟ وما خلفية الصراع بين الجيشين؟ وهل يمكن أن يتجنّب السودان مخططات التقسيم ولعنة الانقلابات العسكرية؟ السودان ثالث أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا وفي العالم العربي، ويقطنه زهاء 48 مليون نسمة، كان له حدود مع تسع دول قبل فصل الجنوب. وبقيت له حدود مع سبع دول، كما يتميّز بموقعه الاستراتيجي بإطلاله شرقا على البحر الأحمر “جغرافيا الخليج”، وغربا يعدّ بوابة لكل دول أفريقيا، وكذلك جنوب الصحراء، ويعتبر سلة غذاء العالم إلى جانب الأرجنتين، لتوفره على أراض زراعية خصبة، وثروات حيوانية، وموارد معدنية (اليورانيوم، الحديد، النحاس، الفضّة…)، وينتج 80 طنا سنويا من الذهب. ويذكر الباحث راغب السرجاني أن الغرب سعى إلى منع السودان من أن يكون قوة إقليمية بالمنطقة بتفتيتها إلى خمسة أجزاء، قسم تم انفصاله قي الجنوب، وفي الغرب دارفور في طور الفصل، وفي الشرق كردفان، وفي الشمال النوبة، وفي الوسط الخرطوم وما جاورها. لأن السودان لو قويت شوكته سيكون له تأثير بالغ على الدول الحدودية الأفريقية من حيث المدّ الإسلامي ومحاربة الوثنية وإقامة علاقات اقتصادية متميّزة. لذلك تم فصل الجنوب الذي يتحكّم في منابع المياه، ويمتلك 80% من البترول السوداني، ليكون سدا منيعا أمام هذه الدول الأفريقية، وكذا زرع بوادر التمرّد في إقليم دارفور الذي يزخر بـ15% من البترول السوداني، ويتوفر على موارد اليورانيوم. وجاء في دراسة لشيماء فاروق نشرها موقع المركز الديمقراطي العربي في 09/05/2023 أن الإمارات تستحوذ على أكبر نسبة من الذهب السوداني، وهو حاصل الفارق بين بيانات السودان والإمارات فيما يتعلق بالصادرات الرسمية، فالكميات المهربة تتراوح بين 25% سنة 2018 و60% أو 80% سنة2021 وتباع بأقل من متوسّط السعر العالمي. وتقدّر الاحتياطات غير المستغلة بنحو 1550طنا. ويذكر تقرير لمجلس الأمن أن نحو 48 طنا من ذهب دارفور هرّب إلى الإمارات بين العامين 2010 و2014، عبر قوات الدعم السريع وذراعها الاستثمارية شركة الجنيد. في حين تدعم الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي القوات المسلحة، زاعمة إرساء نظام حكم مدني لإبعاد قوات الدعم السريع وصدّ التدخل الروسي في أفريقيا. سيما وأن قوات “فاغنر” الروسية تؤمِن مناجم الذهب، وتسعى روسيا إلى تدشين قاعدة عسكرية ببورتسودان في الشرق المطلة على البحر الأحمر، لكن البرهان يحول دون ذلك مراعاة لمواقف إقليمية. يستدعي فهم عمق الصراع بين البرهان وحميدتي العودة إلى تاريخ الاحتلال الإنكليزي للسودان سنة 1899 استجابة إلى توصيات لجنة ميلنر، حين زرعت بذور التفرقة لفصل الجنوب عن طريق خطط مدروسة، بإرساليات تبشيرية، قطع جذور اللغة العربية والتواصل باللهجات السائدة، تسليح الجنوبين … إلخ. وهكذا على مدار56 سنة اقتنع سكّان الجنوب بالاختلاف وبحتمية الانفصال. أما عن سبب عدم الاستقرار السياسي فهناك من يُرجع ذلك إلى تصارع الأحزاب السياسية فيما بينها، ليتدخّل الجيش بالانقلابات العسكرية ويوقف المسار الديمقراطي، غير أن أغلب لانقلابات العسكرية كانت برعاية من المدنيين أنفسهم، ففي سنة 1958 طلب رئيس حزب الأمة من الجيش استلام السلطة إلى غاية ثورة 1964، قطعا لاستلام حزب آخر السلطة. وفي سنة 1985 إلى 1989 دفعت الجبهة القومية الإسلامية العقيد عمر البشير للقيام بانقلاب عسكري، انتقاما من أحزاب أخرى. ومع مرور الوقت، تفاقمت الخلافات بين الجبهة والرئيس البشير، ما اضطرّ الأخير إلى إعلان حالة الطوارئ سنة 1999، تبعه انفصال جنوب السودان سنة2011. فضلا عن تأزّم مشكلة دارفور منذ سنة 2003، ما دفع عمر البشير إلى تشكيل مليشيات سميت الجنجويد بقيادة حميدتي، للقضاء على حركتي التمرّد في دارفور، والذي نجح في المهمة الموكلة له، وفي 2017 ضمّ هذه المليشيات إلى الجيش رسميا تحت مسمّى قوات الدعم السريع. ومع مرور الوقت، وتنامي ثروة حميدتي بسبب عائدات الذهب، تضاعفت قوات الدعم السريع لتصل إلى مائة ألف مقاتل. وعلى خلفية تدهور الحياة الاقتصادية، اندلعت ثورة شعبية أطاحت عمر البشير في 11/04/2019، وتم تشكيل المجلس العسكري الانتقالي برئاسة البرهان ونائبه حميدتي الذي التزم بإدارة الحكم سنتين ليسلم السلطة للمدنيين. في الوقت الذي برزت فيه خلافات بين الثوار والمجلس العسكري بشأن تشكيل مجلس مدني نشبت عنها أحداث دامية، وهو ما دفع الجيش وقوى الحرية والتغيير إلى تشكيل مجلس سيادي من11عضوا، ستة من المدنيين وخمسة من العسكريين تحت رئاسة البرهان ونائبه حميدتي لإدارة الحكم مؤقتا، حيث توصل المجلس إلى عقد اتفاق إطاري في ديسمبر/ كانون الأول 2022، من أهم بنوده عودة الجيش إلى الثكنات، انتقال السلطة للمدنيين خلال سنتين، أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة وقائد قوات الدعم السريع مدنيين، ودمج قوات الدعم السريع بالجيش، وهي النقطة التي كانت محل خلاف بين البرهان الذي رأى أن يحصل الدمج خلال سنتين بينما رأى حميدتي أن يتم الدمج خلال عشر سنوات. وقد ذكرت أطراف أن حميدتي تحالف مع قوى الحرية والتغيير ليكون الراعي الرسمي للمشروع الديمقراطي والحامي له بقواته، ويتهم آخرون البرهان بسعيه إلى احتكار السلطة والتخلص من شريكه حميدتي. وبعدما بلغت التناقضات السياسية والعسكرية أقصى حدّ، وصلت إلى المواجهة العسكرية. وبحسب خبراء أمنيين وبعد قرابة أربعة أشهر من الاقتتال، يقترب الجيش السوداني من حسم المعركة لصالحه بسبب خبرته في القتال، مع اجترار الشعب وحده مرارة الحرب من تقتيل وتهجير وتجويع. وقد دعمت الإمارات قوات الدعم السريع بالمساعدات المالية والعسكرية، فيما تدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي البرهان للتصدي للتوغل الروسي في السودان، بل هما يعملان على إنهاك طرفي الصراع لتنصيب الفصيل الذي يخدم مصالحهما عن طريق التفاوض بدل الانتخاب. في غياب التعاضد الإسلامي والعربي وأمام فشل بعثة الأمم المتحدة وعدم فعالية المبادرة الأميركية السعودية ومبادرة الاتحاد الأفريقي، وعدم حيادية الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) المخترقة لتبنّيها حل التدخل العسكري، يمكن اقتراح الحلول الآتية: أولا، أولوية إنهاء الحرب بالاعتراف بأن الجيش هو المؤسّسة الوحيدة الضامنة للأمن القومي والمحافظة على جسم الدولة، وحمله على التقيد بمهامه الدستورية بعيدا عن إمبراطوريات المال، وأن قوات الدعم السريع متمرّدة، ما يستوجب وضعها تحت طائلة القانون لإعادة هيكلتها، بمعية أكثر من87 حركة مسلحة، مع الحذر في التعامل مع تداعيات المتابعات التي يمكن أن تطاول أفراد هذه القوات المنتمين إلى قبائل بعد الحرب تفاديا لانزلاقات أخرى، فضلا عن إحالة كل من البرهان وحميدتي على التقاعد. ثانيا، أهمية البناء المؤسّسي ضامنا للاستقرار السياسي وإشراك كل الفاعلين في إدارة الشأن العام للانطلاق الفعلي للنهضة الاقتصادية والفكرية والتطوّر ومواكبة التقدّم. ثالثا، الاتعاظ من فصل الجنوب تفاديا لانفصالات أخرى محتملة بتبنّي نظام حكم تمثيلي لكل القبائل بشكل متساو، وأن تنال كل أقاليم السودان القدر المستحقّ من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تعزيزا للشعور بالولاء والمواطنة. رابعا، استيعاب السودانيين أن التآمر الدولي على السودان ما كان لينجح لو توافق كل السودانيين على مشروع حضاري وطني من دون تمييز بكل مكوناتهم الدينية والقبلية والعرقية والاثنية. خامسا، حتمية عقد مؤتمر وطني يحضره كل أطياف المجتمع، علماء الاجتماع والنفس والقانون والاقتصاد والفلسفة والخبراء والفنيون والمهنيون وأهل الفن، للتوافق على نظام حكم مناسب يستوعب خصوصية البلد، بعيدا عن كل الأيديولوجيات. سادسا، إعادة النظر في قانون إنشاء الأحزاب السياسية وحظر تكوينها على أساس عرقي، جنسي، أو لغوي، للتوافق على مشروع دولة وطني يقوم على برامج سياسية واقتصادية واجتماعية. سابعا، ضرورة إيمان الأحزاب السياسية بأن عملية التحوّل الديمقراطي تستدعي المرحلية والحوار، فضلا عن الإيمان بمبدأ التداول على السلطة بعيدا عن منطق توريث الزعامات. تاسعا، ضبط معايير الالتحاق بالمؤسسة العسكرية والترقيات فيها، وتحييد المؤسّسة عن كل التنظيمات الحزبية، والتأثيرات الأيديولوجية والدينية. استنادا إلى ما تقدّم، نخلص إلى أن مبادرات المجتمع الدولي فشلت، بسبب تضارب أجنداتها، بل ساهمت في تعميق الأزمة بالاتفاق الإطاري الذي سعى إلى إيجاد دولة بجيشين متناحرين، كما كشف هذا المأزق بخسائره الفادحة عن تشوّهات الدولة وعن تواطؤ معظم النخب السياسية والعسكرية وعدم تحمّلها مسؤولياتها التاريخية بسبب انشغالها بمصالحها الضيقة، وأمسى كل من يعتقد أن التحوّل الديمقراطي يمكن أن يتأتّى من أصحاب البنادق الذين لم يؤمنوا قط بالديمقراطية هو شخص واهم، بل الراجح أن السودان بعد الحرب لن يكون كما قبل، بالنظر إلى التكاليف الباهظة المتكبدة، ما يوجِب على كل النخب مستقبلا التوافق على مفهوم واحد للوطن، والسياسة، ودور الجيش، والتصالح مع شعبها وترجيح المصلحة العليا للوطن، وتعجيل اللجوء إلى صناديق الاقتراع في كنف النزاهة والشفافية بعيدا عن صناديق الذخيرة بعد إيقاف الحرب، للتمكّن من بناء دولة محورية تستثمر مقدّراتها لتكون قوة فاعلة على المستويين، العربي والأفريقي، أسوة بأوغندا وتركيا. العابد بكاري – العربي الجديد