يوسف عب المنان يكتب..المليشيا خططت للقتال بعيدًا عن دارفور لهذه الأسباب
متابعة:الرؤية نيوز
بارا.. معركة أولى في طريق شاق ووعر
المليشيا خططت للقتال بعيدًا عن دارفور لهذه الأسباب
قيادة الفريق شمس الدين كباشي للعمليات تعيد ترتيب الأوراق
1
حققت القوات المسلحة والقوات المشتركة والدراعة وفيلق البراء بن مالك وكتائب جهاز الأمن والمخابرات، تحت قيادة واحدة للجيش وخطة مركزية وإشراف سيادي وتخطيط دقيق، انتصارات في معركتي كازقيل رياش (45 كيلومترًا غرب الأبيض) ومعركة تحرير بارا (60 كيلومترًا شمال شرق الأبيض)، وذلك في بداية حملة (الدرت) لحصاد جباريك الدعم السريع قبل الدخول في أراضي المشروع.
وإذا كانت الجبراكة هي المزرعة الصغيرة حول البيت، فإن المشروع هو الأرض الاستثمارية الحقيقية. وإذا كانت الجبراكة هي كازقيل والحمادي وبارا والمزروب، فإن المشروع هو الفاشر ونيالا وزالنجي.
لكن يبقى الانتصار الذي تحقق في كازقيل، بسحق عدد كبير جدًا من المليشيا وهلاكها، يمثل المعركة الأهم. أما تحرير بارا من قبضة المليشيا يوم الخميس، فهو يوم يماثل خميس الطيب ود ضحوية الذي وجد محبوبته في سوق تمبول تشتري السكر والعطور، فهام بها مثل هيام خالد الشيخ الباحث في التراث، عاشق بارا ودار الريح وأرض السافل.
حين شاهد الطيب ود ضحوية محبوبته في سوق تمبول قال:
> يوم الخميس لاقني الوضيبو مسرح
بسمة معاه بي خاطري وفؤادي اتجرح
يا ود النعيم ابت الظروف تتصلح
نعود للعندها اتقفل الجمال واتارخ
ويوم الخميس كانت معركة بارا، التي لا يضاهيها في التاريخ إلا هجوم الأمير حمدان أبو عنجة على حامية بارا التي تعرف بـ بلك أربعة، بعد حصار يشبه ما تعرضت له خلال الأيام الأخيرة. ونجح أبو عنجة في تحرير بارا ليفتح الطريق نحو السيطرة على الأبيض.
وربما قرأ حميدتي، أو عثمان عمليات العقل المدبر للمليشيا، ذلك التاريخ القريب البعيد، وقرر محاصرة الأبيض من خلال احتلال بارا باعتبارها مدينة استراتيجية تبعد عن أم درمان نحو 300 كيلومتر، مما يجعل العاصمة تحت مرمى نيران المسيرات الصينية. الصين – تلك الدولة التي كانت صديقة للسودان ثم تنكرت له – باعت تاريخها الوضئ بحفنة مال من الإمارات.
بعد أن ظنت المليشيا أن خروجها من بارا مستحيل، وهي تتحصن في السواقي واللبخ وتعيث في الأرض فسادًا، كشفت دوافعها في الانتقام من أهل بارا.
وبارا مدينة صغيرة قليلة السكان اليوم، لكنها جمعت خليطًا نادرًا من أهل السودان: الجعليين الركابية من الشمال، الدناقلة (أسرة عبدالرحمن عبدالله عليه الرحمة)، الجوامعة، البديرية، دار حامد، الكبابيش، الزغاوة، وغيرهم.
بارا أقدم من الأبيض مولدًا، وكانت كردفان تنقسم إلى قبلي وبحري؛ الأبيض عاصمة البحري، وبارا عاصمة القبلي. وبها بلك أربعة من قوات دفاع السودان. لكن الجيش – ولأسباب وأخطاء متكررة – انسحب منها وترك فضاءً واسعًا لا يحرسه إلا بوليس حرس محطات المياه (الدوانكي).
بارا مدينة أعطت مجلس السيادة اثنين من أعضائه الأكفاء: الدكتور إسحق القاسم شداد، والأستاذ محمد الحسن عبدالله يسين، في المجلس الأخير الذي كان يرأسه السيد أحمد الميرغني. وهي معقل للختمية، عندهم مثل الجزيرة أبا عند الأنصار، وفيها وُلد السيد الحسن أبو جلابية الكبير.
وظلت دائرة بارا منطقة لا ينافس فيها الحزب الاتحادي إلا الحزب الاتحادي، حتى الاختراق الأخير لحزب الأمة حين فاز صالح على التوم بدائرة بارا الغربية؛ وكان ثمرة مرة لتعدد المرشحين وضعف التنظيم.
2
عادت بارا، ولعودتها دلالات هامة جدًا. فهي المعركة الثانية في مسيرة طويلة ودروب وعرة يمشيها الجيش في فصل (الدرت) الحالي والشتاء القادم، لتحرير السودان من المليشيا التي لم تأتِ إلا لتفسد الحياة.
وبعض من يجهلون جغرافية السودان يظنون – حسنًا – أن طريق الصادرات قد فُتح على مصراعيه، وغدًا سنشاهد بص أبوقرون يعبر وادي المخنزر وأبوجداد، ويتوقف لأجل امرأة حبلى عند منطقة الحجاب، وتصبح المسافة بين أم درمان والأبيض مجرد أربع ساعات.
لكن ذلك أمل بعيد قبيل تحرير الحجاب، جبرة الشيخ، أم قرفة، أم كريدم، وشريم الدوم، ثم بلوغ بارا أم لبخ حيث محكمة زانوق أو ود تمساح سيماوي.
وقد كتب الشاعر الكبير إبراهيم إدريس عن بارا:
> بارا مين اللاقي
يا حليل أيام الفاقا
الدنيا الشمرت ساقا
وقالت مافي ملاقي
حنيت ليك حنين الناقة
جاهلا شاقي وتابا
دا البرقول اللم شافل نفسي وخم
سافر وخلا بلادا
ويقصد الشاعر مسافرة عثمان خالد، ذلك المبدع الذي أنجبته المدينة التي لم ينضب رحمها أبدًا، وهي من أنجبت المهندس خالد عبدالله معروف، ومحمد جعفر قريش، والبروفسير الضو مختار ابن منطقة أم قلجي التي حُررت أمس الأول.
كما حررت القوات المسلحة محجر رجل الأعمال الشبلي الكريم الخصال بشير عشي، أحد رجال الأعمال القلائل الذين لم يشترهم حميدتي بـ رماد القروش.
منذ ذلك التاريخ، ظل الحاضر شاخصًا، وها هو أزرق طويل الباع الفريق شمس الدين كباشي يعيد للمشهد العسكري حضورًا يعيد للأذهان ما فعله النور عنقرة بجنود الإنجليز حين دخل بارا وحررها قبل دخول الأبيض.
وقد قالت الشاعرة بحر النيل في مدحه:
> بحر النيل يا ناري للمابقدرو
أحمد عين هذا فيكم
ومن ضحى شاف جريكم
وكما هرول الإنجليز خوفًا، هرول الجنجويد أمس من المعركة جزعًا من مصير ينتظرهم.
وفي لحظة تاريخية أخرى، أعاد الفتى السوداني وليد جنا بطولة نادرة وهو يواجه العربة بالعربة، ويكتب للقوات المشتركة فصلًا من فصول التاريخ الجديد لهذا الجيل.
المليشيا التي خططت للقتال بعيدًا عن حواضنها في دارفور، تنتحر الآن في أرض الرمال والأقيزان، وغدًا في الجبال والوهاد، حتى تنتهي أسطورة الجنجويد.
3
الفريق شمس الدين كباشي شكل حضورًا كبيرًا جدًا في مسرح العمليات النشطة في الجزيرة، والآن في كردفان ودارفور. وهو رجل تخطيط عسكري ومقاتل قديم خبر دروب الحرب وأسرارها، وخاض معارك الجنوب والجبال مثله مثل الفريق البرهان.
حين طالبنا في هذه الصحيفة بأن ينتقل أي من الفريقين: شمس الدين كباشي أو ياسر العطا، إلى رئاسة الفرقة الخامسة مشاة الهجانة لقيادة العمليات وترتيب أوضاع القوات الكبيرة جدًا في الأبيض، لم يعجب ذلك بعض المتربصين، وحاولوا الوقيعة بيني وبين هؤلاء القادة. لكن القادة يعرفون صالح الكلام من طالحه.
وجاء شمس الدين كباشي إلى الأبيض يسعى لتحريك ملف العمليات التي تسبقها تحضيرات عديدة، ولم يغادر أبو قبة حتى مساء أمس رغم نجاح مهمته.
كانت لخطاباته التعبوية ومخاطبته الجنود والضباط في الخطوط الأمامية أثر بالغ، وهو غير مكترث لتهديدات المليشيا وانتشارها وسط النازحين.
وها هي البلاد تحصد ثمرة تلك الجهود؛ إذ كسرت عمليات كازقيل عظم المليشيا حتى المشاش، فهلك قادتها، وفر من فرّ بجلده إلى النعام دينق مجوك قبل أن ينتظر غضبة أسود العرين في مقبل الأيام.
4
عمليات تطهير كردفان الحالية تطرح أسئلة عديدة عن دور قيادات كردفان في إسناد العمليات العسكرية واستقطاب من يرغب في وضع السلاح.
لقد التحق بالفرسان المقاتلين نحو 400 من أشرس مقاتلي المسيرية، انضم منهم للقوات المسلحة حتى الآن حوالي 200 مقاتل، ونالوا تدريبًا متقدمًا في مروي وكوستي، وهم يتأهبون الآن مع إخوتهم كتفًا بكتف، رجلًا برجل، لتحرير أرضهم.
كذلك تداعى أبناء النوبة منذ اندلاع الحرب للانخراط في القتال دون سؤال الدولة عن راتب أو خلافة في الأهل.
لكن يبقى السؤال: أين دور القيادات التي تتزاحم بالمناكب حول مكاتب الوزراء في بورتسودان؟ ولماذا يبقى بعض أبناء حمر والحوازمة والمسيرية في القاهرة وطنطا ورَا والإسكندرية، فيما يواجه آخرون خطوط النار؟
لقد خلع عمر شيخ الدين البدل والقمصان وخاض مع شمس الدين كباشي مؤازرة ودعمًا وحضورًا فاعلًا في دائرة الحدث. فأين الآخرون؟
إن المجتمعات اليوم أكثر حاجة للقيادات لتقف مع جماهيرها. فلماذا هذا التواكل والنأي عن خطوط النار، واختيار المنافي البعيدة للحديث نيابة عن جماهير نهبت وسلبت ولم يبقَ لها إلا ماء الوجه؟
✍️ يوسف عبد المنان