إبراهيم شقلاوي يكتب قمة الدوحة..السودان من العزلة إلى التأثير
متابعة:الرؤية نيوز
ليس من السهل أن يُعاد تقديم السودان على طاولة السياسة الإقليمية والدولية، بعد عامين ونصف من حرب أنهكت الداخل، وعبثت بصورته خارجيًا. لكن الخرطوم، في مشاركتها المرتقبة بقمة الدوحة العربية الإسلامية، تذهب لتقول إنها لم تسقط أصلًا من الحسابات، وإن الدولة السودانية لا تزال حاضرة، تقاتل وتشارك ، وتعيد ترتيب موقعها في الخارطة الإقليمية والدولية.
في هذا المقال، نستعرض كيف يمكن للخرطوم أن توظّف هذا المنبر الدبلوماسي لتأكيد ثوابتها، وبناء شبكة تفاهمات سياسية جديدة، وتحقيق قدر من التوازن في خطابها الخارجي بين رفض التدخلات، والانفتاح على المبادرات الجادة التي تحترم سيادة الدولة ووحدة مؤسساتها.
كما نُحلّل الخلفيات التي تجعل من هذه القمة اختبارًا دقيقًا لموقع السودان الإقليمي، لا سيما في ظل الضغط المتزايد من الآلية الرباعية، والمواقف الشعبية السودانية التي باتت أكثر وعيًا بطبيعة الحرب، ورفضًا لأي حلول مفروضة من الخارج.
إن مشاركة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في قمة تجمع بين البعدين العربي والإسلامي، تحمل دلالات كبيرة. فالمشاركة تأتي في توقيت بالغ التعقيد، تتقاطع فيه الضغوط السياسية الخارجية، مع تقدم الجيش على عدد من الجبهات، ومع تصاعد المواقف الداخلية الرافضة للمبادرات التي لا تُراعي سيادة الدولة، ولا تعكس توازن القوى الفاعلة.
وبالتالي فإن قمة الدوحة، في مناخ إقليمي مشحون – في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير على قطر- ، تشكّل منبرًا سياسيًا مهمًا، يُتوقع أن تستثمره الخرطوم لتثبيت سرديّتها المتعلقة بالحرب، وتوضيح موقفها من المبادرات المطروحة باسم السلام، دون أن تخسر التوازن الإقليمي.
لا تخلو مشاركة اليوم الواحد من فرص، إذ يُتوقع أن يكون البرهان على موعد مع عدد من اللقاءات الثنائية على هامش القمة، خصوصًا مع وجود وزير الخارجية د. محي الدين سالم ضمن الوفد، وهي لحظة ثمينة إذا ما أُحسن استثمارها في اطروحات اقتصادية لإعادة الإعمار بجانب نقل الرسالة السودانية المباشرة إلى الدول الفاعلة، وخاصة تلك المنخرطة ضمن آليات الوساطة أو التي تملك تأثيرًا في مواقف مجلس الأمن والمنظمات الأممية.
ويمكن هنا للسودان أن يؤكّد من جديد ما عبّر عنه بيان وزارة الخارجية الصادر مؤخرًا، وهو أن أي مبادرة أو وساطة لن تكون مقبولة ما لم تحترم وحدة الدولة، أو تساوي بين القوات المسلحة والمليشيا المتمردة. ما يضفي على قمة الدوحة بُعدًا نوعيًا، أنها تنعقد في وقت بات فيه الانقسام واضحًا داخل الفاعلين الدوليين والإقليميين.
فبينما تستمر بعض العواصم، لا سيما أبوظبي وواشنطن، في تقديم نفسها كأطراف راعية للسلام، يتعزّز في المقابل شعور سوداني واسع، رسمي وشعبي، بأن بعض هؤلاء ليسوا أطرافًا محايدة، بل منخرطون عمليًا في دعم التمرد وتمزيق الدولة.
في المقابل تبدي دول مثل مصر والسعودية حذرًا استراتيجيًا، وتبدو أكثر استعدادًا لتفهّم تعقيدات المشهد السوداني، خاصة لجهة تأثير استقراره على الأمن القومي للمنطقة بأسرها.
هذا التباين داخل الرباعية يُمثّل بدوره هامشًا يمكن أن يُستثمر لصالح موقف الخرطوم، خاصة إذا قُدّم الموقف السوداني ضمن رؤية متماسكة، ليس رفضًا للمبادرات، بل باعتباره دفاعًا عن السيادة وحرصًا على سلام عادل وشامل، لا تسوية هشّة أو مؤقتة.
ولعل الزخم السياسي الذي تخلقه القمة، مع اجتماع القادة، يفتح بابًا لتبديد بعض التصورات الخاطئة التي تروّجها بعض المنصات الداعمة للمليشيا، ويتيح مخاطبة الرأي العام العربي والإسلامي بلغة تختلف عن لغة التبرير أو الدفاع، بل بمنطق الثقة والشراكة والمصالح المتبادلة.
كما أن القمة، في بُعدها الإسلامي، تأتي في لحظة تتقاطع فيها المظالم، من العدوان على غزة إلى العدوان الإسرائيلي الأخير على قطر، وهي فرصة نادرة لإعادة تقديم السودان كجزء من الإجماع العربي-الإسلامي في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، وهو ما قد يُعيد لخطابه السياسي بُعدًا أخلاقيًا واستراتيجيًا في آن، بعد أن طغت عليه ملفات الحرب الداخلية.
ولا شك أن ما يعزّز هذه الفرصة هو التقدّم العسكري المتزايد للقوات المسلحة في عدد من الجبهات، وتماسك الجبهة الداخلية التي بدأت تتبلور بصورة أكبر، خاصة بعد انكشاف حجم الدعم الأجنبي للمليشيا، وتورّط أطراف خارجية في تغذية الصراع.
هذا التماسك الداخلي هو ما يعطي الحكومة شرعية حقيقية، ويجعل صوتها في القمة، إن استُثمر جيدًا، أكثر تأثيرًا، وأقدر على فرض سرديّتها أمام القادة والوفود المشاركة.
اللافت في تطورات الأزمة السودانية أن خطاب رفض “التسويات المفروضة” لم يعد حكرًا على الحكومة أو القوات المسلحة ، بل أصبح جزءًا من خطاب سياسي شعبي واسع. أحزاب مؤثرة مثل: المؤتمر الشعبي، والتيار الإسلامي، والاتحادي الديمقراطي، والحراك الوطني، والحركة الإسلامية، والحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية، أعلنت بوضوح رفضها لأي مبادرة خارجية تتجاهل ميزان القوى الحقيقي على الأرض، أو تُساوي بين الدولة والمليشيا.
هذا التوافق الوطني، كما نراه من #وجه_الحقيقة، يُمثّل رصيدًا سياسيًا يمكن أن تدعمه الخرطوم دبلوماسيًا، باعتباره تعبيرًا عن جبهة داخلية واعية ترفض التدخلات الخارجية وتتمسّك بالسيادة. فقمة الدوحة قد لا تغيّر المعادلة وحدها، لكنها قد تشكّل انطلاقة جديدة إذا أحسن السودان استثمار اللحظة، وتحوّل من العزلة إلى التأثير.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 15 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com