جريدة بريطانية:هل تستطيع الحركات المسلحة حل الأزمة السودانية؟
متابعة:الرؤية نيوز
تسببت إجراءات البرهان في حال اختناق سياسي وأصبح من الصعب الرجوع إلى التسويات السياسية المطروحة
بعد أن مكثت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام عام 2020 طويلاً في موقف الحياد من الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، ستتحرك بدعوة من رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت لعقد اجتماع في جوبا للتباحث حول السبل الكفيلة بوقف الحرب، واختلفت رؤى الحركات المسلحة إزاء اتفاق جوبا، إذ وقعت حركات دارفور باستثناء “حركة تحرير السودان” جناح عبدالواحد محمد نور و”الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال” جناح عبدالعزيز الحلو.
ظل الاتفاق مهدداً بالتعطيل لانقسامات طاولت تحالف “الجبهة الثورية” التي تضم هذه الحركات، إضافة إلى قوى سياسية أخرى، كانت تشكل جبهة معارضة واسعة للنظام السابق، وكانت قد وقعت اتفاقات سابقة للانتفاضة ضد النظام وإسقاطه، لكن لم يتم الالتزام بها، وانعكس ذلك على الأمن في دارفور ومثّل بيئة خصبة للانقسامات الحالية، بدأت منذ توقيع أطراف من “الجبهة الثورية” مع “المجلس المركزي للحرية والتغيير” في الثامن من سبتمبر (أيلول) 2021 على “الإعلان السياسي لوحدة قوى الحرية والتغيير وقضايا الانتقال وبناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية”، إذ أثارت تلك الخطوة حفيظة مكونات أخرى من “الجبهة الثورية” فردت بعد شهر واحد في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) بالتوقيع مع أطراف من داخل “قوى الحرية والتغيير” على “الميثاق الوطني لوحدة قوى إعلان الحرية والتغيير”، مما خلق بوناً شاسعاً في المواقف بين التنظيمات السياسية والحركات المسلحة.
داخل “الجبهة الثورية” كانت تمور اختلافات الحركات المسلحة والقوى السياسية، ولكنها جميعاً كانت تبشر باقتراب المكونين المدني والعسكري من تسوية سياسية جديدة، إلى أن عاجلتها الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة ورئيس المجلس العسكري الفريق عبدالفتاح البرهان في الـ25 من أكتوبر من العام نفسه. بعد هذا التاريخ الذي تسبب في حال اختناق سياسي، أصبح من الصعب الرجوع إلى التسويات السياسية المطروحة. ولم تتوحد هذه القوى المكونة من الحركات المسلحة والقوى السياسية على شيء سوى أن ما حدث “انقلاب كامل الدسم”، وطالبت الجيش بالتزام مهمته وهي حماية الدولة من الاعتداءات الخارجية ومساندة السلطة المدنية إذا طلب منه ذلك وعدم اشتراك القوات المسلحة في أي نشاط سياسي.
تمرد دائم
اتسمت العلاقات المدنية – العسكرية منذ استقلال السودان عام 1956 بالصراعات، وهي قديمة منذ نشوء السودان بنظم حكمه المختلفة، بل تعود لممالك ما قبل الميلاد مروي ونبتة وكوش، ثم الممالك المسيحية القديمة مثل مملكة علوة، وبعد دخول الإسلام كان الصراع بينها وسلطنة الفونج ودارفور والداجو وغيرها، مروراً بالحكومات الوطنية بعد الاستقلال وإلى الآن.
قضى السودان الجزء الأكبر من تاريخه السياسي تحت وطأة الحكم العسكري، وفترات ديمقراطية قصيرة سرعان ما ينقلب عليها العسكر، ولكن بين النظامين تعيش الحركات المسلحة حالات تمرد دائم تقطعه اتفاقات توقع عليها مع الحكومة العسكرية أو المدنية، ولم تذهب أية حركة في الاتفاق إلى نهايته باستثناء “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، إذ أوصلت “اتفاقية نيفاشا” 2005 جميع الأطراف إلى انفصال جنوب السودان عام 2011، وبينما كان النظام السابق مستمراً في قمع المعارضة المدنية، كانت المعارضة المسلحة ترتب جيوشها وصفوفها وسادت حال من عدم التزام الاتفاقات الموقعة وتنامى العنف السياسي.
أدت الصراعات بين المدنيين والعسكريين إلى هيمنة المكون العسكري بقيادة البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نتيجة لضعف القوى السياسية وعدم قدرة حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك على إدارة الاضطرابات التي سادت في الفترة الانتقالية، فانتهز الفريق البرهان الفرصة وأمسك بزمام الأمور وانقلب على الحكومة المدنية وقام بتعطيل “الوثيقة الدستورية” وإعلان حال الطوارئ، مما أدى إلى وضع من عدم الاستقرار انعكس على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتلت هذه الحال كثرة الانقسامات داخل كل المكونات المدنية والعسكرية وشملت الحركات المسلحة أيضاً، وانتهت بالاختلاف الواسع حول بنود الاتفاق الإطاري الذي وقع عليه في ديسمبر (كانون الأول) الماضي والخاصة بدمج قوات “الدعم السريع” في الجيش أسوة بالحركات المسلحة الأخرى، وفي النهاية أوصلت البلاد إلى الحرب المستمرة منذ الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي.
إحكام السيطرة
أدى الشد والجذب بين المدنيين والعسكريين إلى عرقلة عملية التحول الديمقراطي نسبة إلى القيود التي فرضها المكون العسكري على مسيرة الانتقال، إذ وضع العسكريون عقبات عدة بغرض إحكام سيطرتهم على الحكم، وفي هذا كانت الحركات المسلحة المدعومة من قبل المعارضة السودانية لنظام الإنقاذ والأحزاب السياسية بعد إسقاط النظام بدأت استعداداها بأولى خطوات المشاركة في السلطة بتوقيع “اتفاق جوبا للسلام” مع الحكومة الانتقالية المكونة من المدنيين والعسكريين. وفي تلك الفترة كان المكون المدني بقيادة “قوى إعلان الحرية والتغيير” وبدعم من حمدوك يؤسس لمرحلة جديدة تتسم بالديمقراطية بحسب الاتفاق والإعلان الرسمي، ولكن لم يخلُ التشاور بين الأحزاب والقوى والسياسية من الرغبة في الحد من صلاحيات الحركات المسلحة.
كانت فترة المشاركة الواسعة للمكون العسكري بداية لتقنين تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، إذ كرست المؤسسة جهودها لإصدار مجموعة من القرارات بتحسين وضع الجيش الذي قلص البشير صلاحياته لمصلحة المؤسسة الأمنية والاستخبارات وقوات نظامية أخرى منها الاحتياط المركزي وقوات “الدعم السريع”، وتنامى صعود هذه الأخيرة بعد سقوط النظام وكان بمثابة حجر العثرة الذي عرقل مسيرة المدنيين الذين اختاروا التحالف معه أخيراً. أما الحركات المسلحة الأخرى، فكانت تعتقد بأن “الدعم السريع” تغول على جميع استحقاقاتها مع الحكومة، مما دفع بعضها إلى التوقيع على “اتفاق جوبا”، فيما رفضت أخرى التوقيع واختارت مواصلة تمردها ومحاربة الحكومة الانتقالية.
تأتي مبادرة سلفاكير تزامناً مع تركيز قوى سياسية على الحل الإقليمي ضمن الاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد”، إذ نشرت قائمة بأسماء المشاركين في لقاء تحضيري بأديس أبابا ضمت قيادات من القوى السياسية والمدنية، وفي الأثناء شملت دعوة دولة جنوب السودان الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وهي “الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال” بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار و”حركة العدل والمساواة” التي يتزعمها وزير المالية جبريل إبراهيم و”حركة تحرير السودان” بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، و”تجمع قوى تحرير السودان” بقيادة عضو مجلس السيادة الطاهر حجر و”حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي” بقيادة الهادي إدريس.
احتمالات الحل
العامل الأبرز الذي يسوق مقدرة الحركات المسلحة على حل الأزمة الحالية هو أنها ظلت فاعلة منذ النظام السابق، وبعد انفصال جنوب السودان إلى دولة مستقلة عام 2011 شكل “تحالف الجبهة الثورية” من أربع حركات من كبرى فصائل المعارضة المسلحة بهدف إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، ووقعه ممثلو الحركات في العام نفسه في بلدة كاودا بجبال النوبة في ولاية جنوب كردفان، وهي “حركة العدل والمساواة” و”حركة تحرير السودان” و”حركة تحرير السودان” بقيادة عبدالواحد محمد نور و”الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” والتي كانت تمثل قطاع الشمال للحركة الشعبية الأم.
تكون هذا التحالف من حركات مسلحة قوية، صحيح أن بعضها وقع اتفاقات مع الحكومة بعد “اتفاقية نيفاشا” ولكنها لم تستمر مع الحكومة وظنت أن ذلك نوع من التدجين وسلب قوتها، وكانت للمعتقدات الأساسية للحركات المسلحة وحملاتها العسكرية ضد النظام السابق والدعم الدولي الذي حصلت عليه تبعاتها في تصوير براعتها في القتال ثم إطاحة النظام.
تحول الحركات المسلحة بعد انفصال الجنوب ضمن “الجبهة الثورية”، تميز بسمات عدة، الأولى تغير أداء الحركات من النمط التاريخي للتمرد إلى الاندماج ضمن قوى سياسية، مما خفف حدة التنافس بينها بدخول لاعبين جدد، والثانية تنفيذها لضربات عدة ضد القوات المسلحة السودانية بعد تشكيل التحالف وأبرزها غارة أم روابة وأب كرشولا،عام 2013، فأبقت على زخم قوتها العسكرية متوهجاً، والثالثة دخول مجموعات مقاتلة في “الجبهة الثورية” ونقل مركز ثقل التمرد إلى منطقة جنوب كردفان، مما أدى إلى تركيز الحكومة ردها العسكري على تلك المنطقة.
عوامل الفشل
تواجه الحركات المسلحة تحديات على المستوى الداخلي، هي المواجهة مع الأحزاب السياسية وتحولها من داعم إلى رافض لوجودها في السلطة بحجة تحالفها مع الجيش، وكانت أطراف الحكم متمثلة في المكون العسكري و”قوى الحرية والتغيير” والحركات المسلحة، وبعد انقلاب البرهان خرجت الثانية من المشهد السياسي، ولكن عند مشاركة مجموعة من المكون المدني هي “قوى إعلان الحرية والتغيير” (المجلس المركزي)، انضمت أطراف من “الجبهة الثورية” التي تضم في عضويتها حركات مسلحة وتنظيمات سياسية إلى اجتماعات مع المكون العسكري، فيما رفض الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين الموالي له وبعض لجان المقاومة تلك المحادثات. وكانت الاجتماعات تهدف إلى “التوصل لحل وتوافق سياسي يفضي إلى اتفاق يؤسس لوضع جديد وفق اتفاق شامل بموجب إعلان دستوري جديد، وتشكيل حكومة تكنوقراط على معيار الكفاءة حتى تصل البلاد إلى إجراء انتخابات عامة بنهاية الفترة الانتقالية”.
أما العوامل التي تقلل من فرص مقدرة الحركات المسلحة على حل الأزمة السودانية، فمنها عدم وجود إجماع وطني مدني قادر على إخراج الجيش من الحياة السياسية، مما ألقى بعبء إضافي على الحركات المسلحة التي تبنت حلولاً سياسية غير قادرة على تطبيقها. كما أن بند الترتيبات الأمنية الخاص بدمج الحركات المسلحة في الجيش، جعلها تروج للشعور العام بعدم وجود بديل للجيش، خصوصاً مع وجود تيار إسلامي غير قادر على استيعاب فكرة التعددية ولكنه يسعى إلى استعادة سلطته.
والعامل الثاني هو الخلافات السياسية والدينية التي ظلت تهدد تماسك الحركات المسلحة ضمن “الجبهة الثورية”، فبينما نجد “حركة العدل والمساواة” ذات خلفية أقرب إلى الأصولية الإسلامية، إذ ظل يوجه لها الاتهام بأنها الجناح العسكري للتيار الإسلامي، فإن “حركة تحرير السودان” متطرفة في علمانيتها و”الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” ربيبة الحركة الشعبية الأم بزعامة جون قرنق ذات التوجه الشيوعي.
أما العامل الثالث، فهو أن هواجس الدعم الذي تتلقاه الحركات المسلحة السودانية من دول الجوار والدول الغربية أثرت في استمرار الشكوك حولها، وتواصلت بعد اندماجها ضمن “الجبهة الثورية” التي تتهم بدعم تتلقاه من دولة جنوب السودان ويوغندا، مما أسهم في سوء العلاقات بين الحكومة وهذه الحركات، وكذلك تشهد الحركات انسحاب جزء كبير من الدعم الغربي الذي ركز على مساندة حكومة حمدوك، ثم مضيها في الاتهام الموجه لها بمجاراة بعضها للجيش طمعاً في مناصب السلطة.
الاندبندنت البريطانية