أزمات متراكمة..كيف يواجه السودانيون اقتصادا على أبواب الانكماش؟
من الصعب عودة الإنتاج لأن الشركات قد تجبر على الإسهام في المجهود الحربي من قبل طرفي النزاع
أحدثت الحرب المستمرة منذ ستة أشهر بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” صدمة في الاقتصاد السوداني الذي تعرض لانتكاسات عدة خلال العقود الماضية، تمثلت في ارتفاع أسعار السلع الأساس بما في ذلك المواد الغذائية والوقود. ونتيجة لذلك كانت الأسر الفقيرة التي تنفق نسبة أكبر من دخلها على الحاجات الأساس هي الأكثر تضرراً، ومع الحرب تفاقم خطر الفقر.
وتوقع البنك الدولي أخيراً حدوث انكماش ضخم في الاقتصاد السوداني بنسبة 12 في المائة، لأن الصراع أوقف الإنتاج ودمر رأس المال البشري وقدرات الدولة.
وأشار بيان للبنك إلى أنه “جرى تعديل توقعات النمو للسودان بالخفض بمقدار 12.5 نقطة، إذ ألحق النزاع المسلح الضرر بالقاعدة الصناعية والمرافق التعليمية والصحية”، وذكر أن “الحرب تسببت في انهيار النشاط الاقتصادي بما في ذلك الخدمات التجارية والمالية وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات”.
وبسبب عدم الاستعداد منذ اندلاع انتفاضة 2018 والسياسات المضطربة في الاقتصاد، كان تأثير الحرب أكبر مما كان متوقعاً على المدى القصير، ويتوقع أيضاً أن يكون أطول مدى، فضلاً عن احتمال تفاقم عدد من الاتجاهات الاقتصادية السلبية الموجودة مسبقاً، بما في ذلك ارتفاع معدلات التضخم والفقر المدقع وزيادة انعدام الأمن الغذائي وتفاقم التدهور البيئي، ومع الإنفاق على عمليات السلام في الحروب السابقة والذي ساعد لفترة طويلة في تمويل النفقات الاجتماعية، فإن إعادة التوازن قد تكون صعبة للغاية.
أزمات متراكمة
ويوضح اقتصاديون أن الانكماش الاقتصادي يحدث عندما ينخفض مستوى الأسعار وتزداد القيمة الحقيقية للعملة لأسباب مثل زيادة العرض وقلة الطلب على السلع والخدمات، ومن تبعاته تراجع الصادرات بصورة تؤدي إلى تراجع الناتج المحلي والنمو الاقتصادي، مؤكدين أن مصطلحي الانكماش والتضخم يصفان ما يحدث على الجانب النقدي من الاقتصاد، فالنقود هي التي يصيبها الانكماش أو التضخم بالنسبة إلى الجانب الحقيقي من الاقتصاد، السلع والخدمات.
ويقول أستاذ الاقتصاد بجامعة السودان المفتوحة أيوب سيد أحمد لوكالة السودان للأنباء، إن “اندلاع الحرب في دولة ظلت تكابد أوضاعاً قاسية جراء أزمات متراكمة ألقى بظلال سالبة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسكان في ولاية الخرطوم التي تدور فيها الحرب، ويقطنها نحو ثلث سكان السودان”.
وعدد سيد أحمد الآثار السالبة في “توقف إمدادات الخدمات ومدخلات الإنتاج مثل الكهرباء والمياه والوقود والغاز والعمالة والأجهزة التقنية، مما نجم عنه توقف المصانع والمشاريع والمؤسسات الخدمية”.
وأضاف، “شهدت البلاد تدميراً كبيراً في البنيات والمقومات الاقتصادية من منشآت إنتاجية سلعية وخدمية، وتأثرت البنى التحتية الداعمة للإنتاج”.
وتابع، “من الآثار أيضاً نزوح أعداد كبيرة من العمالة المحلية من مناطق الحرب وزيادة الصرف على الحرب الذي سيكون خصماً على الموازنة العامة”، وقد قدرت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة ارتفاع عدد الفارين من منازلهم في المناطق المتأثرة بالحرب بين نازح في الداخل ولاجئ إلى دول الجوار بنحو 6 ملايين شخص.
ضائقة اقتصادية
وإضافة إلى الضائقة الاقتصادية الشديدة التي يمر بها السودان، فإنه يعاني تدمير رأس المال المادي على هامش الارتفاع العام في الضائقة الاقتصادية حول العالم، ووفقاً للبنك الدولي فقد “ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع بنحو 100 مليون شخص ليصل إلى ما يقارب 700 مليون شخص، نسبة كبيرة منهم تعيش في مناطق النزاعات”.
وكانت فترة التضخم المرتفع في السودان أطول من المتوقع خلال الأعوام الثلاثة الماضية مما أدى إلى خفض القوة الشرائية للمستهلكين بنسبة أكبر ولفترة أطول من المتوقع، وهو ما من شأنه أن يدفع الاقتصاد إلى انكماش أعمق من المتوقع ستفاقمه الحرب الحالية.
ويقول الباحث الاقتصادي معتز الأمين إنه “من المرجح أن يستمر الركود لتوقف الصناعة السودانية، وقبل الحرب كان السودان يعتمد بصورة كبيرة على الاستيراد للاستهلاك ومدخلات الإنتاج في الزراعة والصناعة، وسيؤدي انهيار الواردات إلى خفض الإنتاج”.
وأضاف، “غادرت كثير من الشركات الاستثمارية السودان مع اندلاع شرارة الاحتجاجات عام 2018، ومع الحرب انقطعت صلة السودان مع الاستثمار الأجنبي، فضلاً عن غياب البدائل الأخرى، وربما تستمر الأزمة لسنوات أخرى حتى بعد توقف الحرب”.
وتابع الأمين أنه “حتى الشركات الخاصة أغلقت أبوابها في ظل الحرب وغادر أصحابها لاجئين أو نازحين، ولن تعود لنشاطها لأن الأجواء غير مواتية، ولأنها قد تجبر على الإسهام في المجهود الحربي من قبل أي من طرفي النزاع اللذين يركزان على حاجات قواتهما”.
انهيار التعاون
من جانبه عدد الصحافي مكي الشيخ أخطار الانكماش في أن “التضخم أقوى وأكثر ثباتاً مما كان متوقعاً في السابق، ومن المتوقع أن يبلغ معدلاً أعلى، وكذلك كان التأثير الاقتصادي للحرب أعظم مما كان يخشى منه، ويصدق هذا بصورة خاصة بعد حدوث أزمات إقليمية ودولية ظهرت في التردد بمد يد العون للسودان، وكذلك لا تزال أزمة الحكم خلال ثلاثة عقود مضت قادرة على إحداث الفوضى الاقتصادية لأعوام مقبلة، إذ لم تتطور السياسة الاقتصادية وكانت النتيجة هذه التركيبة من الأزمات الاقتصادية المتوالية”.
وأفاد الشيخ بأنه “مع تفاقم تأثير الحرب يصعب وضع سياسة نقدية قوية مما يسمح باستمرار التناوب بين ارتفاع معدلات التضخم والانكماش ومزيد من الضغوط المالية وأزمات الديون واسعة النطاق، ومزيد من انهيار التعاون بين السودان والدول الأخرى”.
وأوضح، “بالنسبة إلى السياسة المالية فإن العواقب قصيرة الأجل التي تخلفها الحرب والآثار التراكمية طويلة المدى المترتبة على تلاشي البحث عن السلام يمكن أن تكون أكبر مما يحدث الآن ومما حدث في دول أفريقية أخرى، ويعتمد ذلك على الصورة الاقتصادية للسودان التي تختلف بصورة كبيرة عن دول الجوار التي بها نزاعات مثل إثيوبيا التي لا تزال على رغم الحرب تحتفظ بعدد من المزايا الاقتصادية”.
صدمات الحروب
ولا يجب النظر إلى الانكماش الذي سيحدث في الاقتصاد السوداني بمعزل عن الانكماش الذي اجتاح الاقتصاد العالمي منذ تفشي جائحة كورونا ثم الحرب الروسية – الأوكرانية، مقروناً بعوامل أخرى مثل تغير المناخ، وكل هذه تعد عوامل جيوسياسية أثرت في الاقتصاد العالمي بأسره مع تعطيل السلع الأساس وسلاسل التوريد الرئيسة.
وهناك عدد من العوامل التي تحركها الحرب ومست بصورة مباشرة حياة السودانيين، وتشمل الخسائر في الأرواح والممتلكات والنزوح القسري والتدمير المادي والقيود المفروضة على تنقل السلع والأشخاص، وعدد هائل من الفرص الضائعة في العمل والاستثمار والإنتاج أسهمت في توليد هذا الأثر الاقتصادي.
وعن ذلك ذكر الزميل أول في معهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي ديفيد ويلكوكس لصحيفة “واشنطن بوست” أن “عام 2020 ليس له سابقة في التاريخ الاقتصادي الحديث، ومنذ الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك قط انكماش يقترب ولو بصورة طفيفة من شدة واتساع الانهيار الأولي عام 2020”.
ومثل الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تسببت بها الحرب الحالية كانت موجات صدمات الحروب السابقة مثل حرب دارفور، ومن المرجح أن تكون الحرب الحالية أكثر استمرارية منها لأن النزاع في دارفور كان محدوداً جغرافياً، بل يتوقع أن تمتد الآثار إلى دول الجوار، إذ تشير توقعات البنك الدولي إلى أن “موجة اللاجئين السودانيين إلى البلدان المجاورة ستجعل الأزمات السابقة تبدو ضئيلة مقارنة بها، وعلى ذلك فسيكون دعم البلدان المضيفة ومجتمعات اللاجئين أمراً بالغ الأهمية”.
وفي هذا الصدد يعد البنك الدولي برامج دعم تشغيلي للبلدان المجاورة حتى يتسنى لها تلبية حاجات التمويل المتزايدة بسبب تدفقات اللاجئين، فمع استمرار الصراع ستزداد النتائج الاقتصادية تدهوراً وسيواصل السودانيون النزوح واللجوء.