جريدة بريطانية : “الجبهة المدنية السودانية” وخيارا الفشل والنجاح -تحليل
كتب :محمد جميل أحمد
“الجبهة المدنية السودانية” وخيارا الفشل والنجاح
التحدي الماثل لواقع الحرب العبثية سيتحول لاقتتال بين الأهالي ما لم ينظر فيه بجدية واكتراث كاستحقاق أخلاقي ووطني
ينشط هذه الأيام حراك سياسي سوداني لقوى حزبية ومدنية توزعت في أكثر من عاصمة أفريقية بين القاهرة وجوبا وأديس أبابا.
لكن اجتماعات أديس أبابا التي ابتدأت من الـ21 إلى الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تحت شعار “وحدة القوى الديمقراطية المدنية من أجل وقف الحرب واستعادة الديمقراطية” تحضيراً لمؤتمر عام للجبهة المدنية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، هي الاجتماعات الأكثر أهمية نظراً إلى التمثيل الكبير الذي شاركت فيه رموز سياسية وشخصيات وطنية وقوى حزبية ومدنية ونقابية، مثل رئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية عبدالله حمدوك وقادة قوى الحرية والتغيير، وقادة أبرز لجان المقاومة، لا سيما لجان منطقة الحاج يوسف في الخرطوم التي كان لها فضل السبق، إلى جانب قادة كثيرين في القوى المدنية والنقابية بالسودان.
بداية لا بد من القول إن العنوان الذي انعقدت من أجله هذه الاجتماعات: “وقف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي”، هو في الحقيقة واجب الوقت للقوى السياسية والمدنية الساعية كافة إلى إنهاء الحرب، ولهذه الناحية نتصور أن قدرة المجتمعين في أديس أبابا على استقطاب تلك الرموز من القوى السياسية والشخصيات الوطنية والمدنية، هو نجاح بارز يحسب لهم ويمكن أن يكون خطوة في الطريق الصحيح.
تأتي اجتماعات أديس أبابا من أجل الوصول إلى تأسيس” جبهة مدنية عريضة لوقف الحرب واستعادة الديمقراطية” كخطوة يمكن القول إنها تأخرت، لكن إذا تأملنا في حجج القائمين على اجتماع أديس أبابا، سندرك أن هذا الحشد الذي ضم رموزاً كثيرة من قادة العمل السياسي والمدني والنقابي، هو إنجاز سبقه عمل كثير ومتواصل منذ إعلان للتداعي إلى تكوين هذه الجبهة في الـ27 من أبريل (نيسان) 2023 من خلال لجان مقاومة منطقة “الحاج يوسف” بالخرطوم، إلى جانب لجان منطقة “أمبدة” في أم درمان.
ثانياً من الأهمية تأكيد أن مجرد الشروع في الاجتماع من أجل تأسيس جبهة مدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية هو ظاهرة إيجابية تبعث رسائل واضحة للسودانيين اليوم، أولها تأمين وحدة السودان والسودانيين في وطن واحد بحدوده المعلومة. جمعهم في أديس أبابا جميعاً كسودانيين من أجل وقف الحرب ملمح إيجابي كبير وأساس في ظل الحرب الدائرة اليوم، وما تنطوي عليه رهاناتها العدمية من تهديد بتفتيت السودان.
كما أن اجتماع أديس أبابا عكس ظاهرة سياسية سودانية معروفة، وهي قدرة السودانيين على توحيد صفوفهم واستجماع أغلب قواهم المدنية والسياسية في كل اللحظات التاريخية والمصيرية التي كان يمر بها السودان، ابتداء من “جبهة الهيئات” التي قادت ثورة أكتوبر 1964 التي أسقطت نظام الجنرال إبراهيم عبود مروراً بـ”التجمع الوطني الديمقراطي” الذي قاد انتفاضة أبريل 1985، وأسقط النظام العسكري للرئيس جعفر نميري، ووصولاً إلى “تجمع المهنيين السودانيين” الذي قاد ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018 وأسقط رأس نظام الإخوان المسلمين (الجنرال عمر البشير) في الـ11 من أبريل 2019.
لكن بطبيعة الحال، هذه المرة الظرف مختلف، والسياق الذي تنشط فيه هذه القوى السياسية كذلك مغاير، ناهيك عن الرهان الكبير الذي ينتظر استحقاق تكوين المؤتمر العام “للجبهة المدنية العريضة” في قضايا معقدة، مثل إنهاء الحرب واستعادة المسار الديمقراطي.
وإذا أمكننا اليوم أن نتصور نجاحاً أولياً لهذا الحشد من أجل تكوين “جبهة مدنية عريضة” لإنهاء الحرب واستعادة الديمقراطية، قياساً على تجارب تحشيد سياسية عظيمة وناجحة كالتي حدثت في تاريخ الثورات السودانية، أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018، إلا أن الوضع هذه المرة مختلف تماماً عن المرات السابقة، ليس فقط لجهة ما كانت تحققه القوى السياسية والمدنية من نجاح في اللحظات الوطنية الحرجة المنتجة للثورة في السودان، وفشل أمام استحقاق إدارة نجاح سياسي يعكس مسؤولية وطنية وأخلاقية في سياسات الدولة، كما حدث بعد الثورات الثلاث (1964، و1985، و2019) بل كذلك لجهة أن الحدث الأكبر اليوم الذي وقع منذ الـ15 من أبريل 2023، أي الحرب في قلب الخرطوم، يعتبر تحدياً غير مسبوق ومطروحاً على القوى السياسية والمدنية كاستحقاق عسير سيكون بمثابة اختبار حاد ومكشوف حيال مصيرين فقط ولا ثالث لهما، إما النجاح الواضح أو الفشل المكشوف.
الحرب التي وقعت في قلب الخرطوم في الـ15 من أبريل 2023 بين الجيش و”الدعم السريع” رفعت الغطاء السياسي والأخلاقي عن القوى السياسية السودانية جميعاً، ومن ثم فإن ما سيواجه هذه “الجبهة المدنية العريضة” من استحقاق تاريخي هو تحد لن يترك معه أي هامش لتمييع نتائج الفشل والنجاح، فالواقع الذي انكشف أمامه عجز القوى السياسية والمدنية في السودان بعد حرب الـ15 من أبريل 2023 واقع فضاح ومكشوف، ولن تجدي معه أي تبريرات للفشل من طرف تلك القوى.
نتصور اليوم أن هذه التحدي الماثل لواقع الحرب العبثية ما لم ينظر فيه بجدية واكتراث كاستحقاق أخلاقي ووطني وإنساني من القوى السياسية والمدنية المجتمعة في أديس أبابا فإن نتيجة الفشل هذه المرة نتيجة واحدة هي: الحرب الأهلية الشاملة.
كما أنه لا ينبغي على القوى السياسية والمدنية اليوم في ظل واقع الحرب العبثية الجارية منذ ستة أشهر النظر بفرح غامر فحسب إلى ما حدث مرات ويمكن أن يحدث مرة أخرى، من نجاح أعقب فشلاً كما فعلت القوى السودانية ذلك في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018. أي أنه لا ينبغي الفرح كثيراً بالنجاح المحتمل لتأسيس مؤتمر عام للجبهة المدنية العريضة خلال نوفمبر المقبل.
ما ينبغي الرهان عليه في نجاح هذه الجبهة الجديدة يتمثل في:
أولاً: قدرتها على إفراز قيادات سياسية سودانية جديدة في رئاستها، قيادات ذات صدقية وطنية وأخلاقية، بينها الحاج وراق وبكري الجاك.
ثانياً: قدرة القوى السياسية والمدنية السودانية المجتمعة في أديس أبابا على تأطير اندماج ناجح لها ضمن النشاط السياسي للجبهة المدنية، بوصف هذه الجبهة اليوم ليست مجرد لاعب سيرك سياسي في مناخ سلمي هش، كما كان حال معظم القوى السياسية في واقع ما قبل الحرب، وإنما بوصفها جبهة خلاص حقيقي كفرصة أخيرة للنجاة من المصير الذي يتهدد السودان من هذه الحرب.
ولئن جسدت قوى الحرية والتغيير موقفاً سياسياً مسؤولاً في القبول بأن تكون أحد المكونات لهذه الجبهة المدنية العريضة في ظل وجود تيارات سياسية ومدنية أخرى، فإن الاستحقاق الكبير الذي ينتظر الحرية والتغيير في التأطير السياسي الجديد يكمن في قدرتها على العمل السياسي ضمن روح فريق الإنقاذ الذي يمكن أن تعبر عنه الجبهة المدنية إذا نجحت في مهمتها الكبيرة، بحيث يكون تكون روح القائمين العموميين في الجبهة المدنية هي “روح بناة الأمم” لا “روح صائد السلطة السياسية”، كما قالت الكاتبة السودانية رشا عوض خلال كلمتها القصيرة أمام اجتماع اللجنة التحضيرية.
لا نراهن على نجاح مضمون لهذه الجبهة المدنية العريضة المرتقبة، ولن يعطي الشعب السوداني لأية قوى سياسية شيكاً على بياض، بعد حرب الـ15 من أبريل في الخرطوم التي تهدد وجوده كشعب، فما حدث لمرات ثلاث من فشل يمكن أن يحدث للرابعة.
ولا ينبغي كذلك الانبهار بنجاح أولي لتكوين الجبهة، وهو أدنى استحقاق مسؤول للقوى السياسية تجاه الشعب السوداني الذي شتته الحرب في الملاجئ، وإنما يجب التأكيد للمجتمعين في أديس أبابا أنه اليوم لا قدرة لأية قوى سياسية أو مدنية في السودان بعد هذه الحرب العبثية على تغطية فشلها الأخلاقي بالأعذار.
فالحرب التي رفعت غطاء الفشل عن تلك القوى، هي ذاتها التي تضع اليوم تلك القوى السياسية مرة أخرى أمام استحقاق أخلاقي لأن تكون بحق قوى تستحق الاضطلاع بالواجب التاريخي الذي يتعين عليها فعله. فكما قالت الكاتبة السودانية رشا عوض فإن توحيد القوى المدنية الديمقراطية في جبهة واحدة لوقف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي ليس خياراً من بين خيارات عدة، وإنما هو الوحيد الذي يمثل واجب التاريخ واللحظة التاريخية.
وإذا كان من الواضح اليوم أن ثمة انقساماً لن تشفى منه القوى السياسية السودانية على رغم الحرب الفظيعة عبرت عنه الاجتماعات الموازية التي تعقد في كل من القاهرة وجوبا في تزامن غريب مع اجتماعات أديس أبابا، وكذلك الرفض الذي أبدته قوى حزبية أخرى لاجتماع أديس أبابا، فإن ذلك يطرح سؤالاً ملحاً حول: ما السبب الذي يجعل تلك القوى السياسية الحزبية ترفض اجتماعاً تشاورياً من أجل وقف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي؟
لكن مع ذلك ثمة فرصة أخرى للالتحاق بالجبهة المدينة، لأن القائمين على اللجان التحضرية مدركين تماماً أن هناك ما يغري قوى سياسية للحاق بهم من أجل تأسيس “جبهة مدينة عريضة” ضد الحرب ومن أجل الديمقراطية.