شعارٌ غريبٌ يُعيد عشرات الأُسر النّازحَة إلى الخرطوم.. ما القِصة؟
ثمة شعار غريب تسبّب في دفع عشرات الأُسر السُّودانيّة التي نزحت من الخرطوم إلى مناطق شتى بالسُّودان، فراراً من حجيم الحرب التي اندلعت بين الجيش والدعم السريع منتصف أبريل الماضي.
احتدام المعارك الحربية والقصف المدفعي المتبادل بين الطرفين المتحاربين، وأزيز الطائرات الحربية والمُسيّرات المُخيف، وسقوط الرصاص والقذائف العمياء الطائشة عشوائياً، ودوِّي الدانات والراجمات وكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة. كلها مخاطر شديدة لم تقف حائلاً أمام أُسر سُودانية كثيرة فرّت من العاصمة الخرطوم إلى مناطق شتى بالسودان باتخاذ قرار العودة إلى الخرطوم، دُون اكتراث لتلك التفاصيل المُرعبة.
“الدانة ولا الإهانة”!
“الدانة ولا الإهانة” التي اتّخذتها كثير من الأُسر العائدة شعاراً لها، بدت عرضاً من تأثير الصدمة أو التنفيس بالوهلة الأولى، لكنها أضحت ما يشبه جُرعات الدواء المُــر بعد استحكام الأزمة الاقتصادية ومضاعفة الضغوط الحياتية وشظف العيش جرّاء فقدان الغالبية العُظمى من الأُسر النازحة لمصادر دخلهم سبعة أشهر تقريباً، فبعد مضي أكثر من نصف عام لتفجُّر القتال الدائر، لم يبق لتلك الأُسر شيء من مُدّخراتها ما يكفي لمُقابلة احتياجاتهم الضرورية.
وذكرت الأمم المتحدة أنّ الاقتصاد السوداني تراجع بنسبة تصل إلى 42% جَرّاء القتال الشرس بين الجيش والدعم السريع، الذي قارب على إكمال شهره الثامن.
حميدة سليمان إحدى النازحات العائدات، قالت لـ”العربية.نت”، إنّها عادت مع أسرتها المكونة من 5 أفراد إلى منزلهم بحي الأزهري جنوبي الخرطوم قبل أسبوعين تقريباً، وتؤكد أنّ قرار العودة إلى الخرطوم لم يكن سهلاً بأيِّ حال من الأحوال، وسردت لـ”العربية.نت”، مشاعر الخوف والقلق التي استبدّت بهم خشية وقوعهم ضحايا لجرائم القتل أو النهب أو الاغتصاب وغيرها من الجرائم المُتكرِّرة يومياً.
وذكرت حميدة لـ”العربية.نت” أنّ المركبة التي تقلهم اضطرت لعبور عشرات الحواجز الأمنية والعسكرية من ولاية الجزيرة بوسط السودان، حيث انطلقوا صوب الخرطوم، وذكرت أنّ تلك الحواجز تكاثرت بعد وصولهم لمشارف العاصمة، وسبّبت لهم الرُّعب والهلع، خاصّةً بعد إجبار جنود تابعين للدعم السريع بعض الشبان على الترجُّل من المركبة بحجّة عدم حملهم بطاقات هوية.
بالرغم أنّ الحي السكني المكتظ قبل اندلاع الحرب أصبح خفيف الحركة نسبياً، إلّا أنّ حميدة وأسرتها صادفوا 5 أسر عادت إلى الحي قبلهم، وهناك أسرتان اثنتان عادتا بعدهم.
ويعتبر الكثيرون أنّ قرار العودة قاسٍ وشديد الوطأة على الأسر النازحة، لأنّهم قد يكونوا عرضةً للقتل أو الإصابة جَرّاء احتدام المعارك والقصف المدفعي والصاروخي والجوِّي المستمر، وانعدام الخدمات الصحية والدواء وانقطاع الماء والكهرباء وانتشار عصابات السلب والنهب، إلّا أنّ الوضع بالولايات لم يعد يُطاق، فالضغوط الاقتصادية وعدم توفر فرص العمل في الوجهات التي نزحوا إليها، بالإضافة إلى شظف العيش، وارتفاع تكاليف الحياة، وعلى رأسها غلاء الإيجار التي وصل لأرقام فلكية، بجانب المُنازعات الأسرية التي وصل بعضها إلى المحاكم، فما أن عاد مواطنو الخرطوم إلى ذويهم بولايات السودان المختلفة فراراً من جحيم الحرب الطاحنة والمعارك المُحتدمة، حتى اشتعلت حروبٌ صغيرةٌ قوامها الأهل والأقارب أنفسهم هذه المرة، كما تُؤكِّد تفاصيل الحكايات المُبكية بين الأصول والفروع داخل البيت الواحد أو الأسرة الواحدة.
كل تلك العوامل، جعلت قرار العودة “شراً لا بُدّ منه”، لأولئك الذين اضطروا للعودة إلى ديارهم رغم المخاطر الشديدة.
يوسف صالح، أحد النازحين العائدين، قال إنّه اتخذ قرار العودة رغم خطورة الأوضاع واتساع نطاق المعارك؛ لأنه لم يعد يملك مصدر دخل ثابتٍ، ويشكو متطلبات الحياة المُتصاعدة.
عاد يوسف رفقة أسرته المُكوّنة من7 أفراد إلى منزلهم بضاحية الثورة بمدينة أم درمان من مدينة شندي في ولاية نهر النيل بشمال السودان – تبعد حوالي 174 كلم بالاتجاه الشمالي للعاصمة – بعد قرابة الأربعة أشهر قضوها في ضيافة أحد أقاربهم هناك.
وقال: “لم تتوقّف شكوى أبنائي من عدم الراحة، لامتلاء المنزل بالنازحين من الأقارب الذين وفدوا من مناطق مختلفة بالخرطوم. ونحن لا نستطيع استئجار منزل منفصل بسبب غلاء الإيجارات”.
يوسف كان يعمل طاهياً بأحد الفنادق الراقية في وسط الخرطوم وأصبح حالياً بلا عمل بعد استغناء الفندق عن خدماته بعد أشهر من اندلاع الحرب.
وبعد عودته، فتح محلاً صغيراً لبيع الوجبات السريعة في سوق “صابرين” بمدينة أم درمان، يدر عليه دخلاً محدوداً يعول منه أسرته ويُغطِّي جُزءاً بسيطاً من احتياجاتهم الضرورية.
يوسف لم يُخفِ مخاوفه من مخاطر العودة إلى مناطق القتال، مُشيراً إلى أنهم يسمعون طوال اليوم دوِّي قذائف المدفعية التي تنطلق من معسكرات الجيش القريبة من مكان السكن، وترعب الأسرة كباراً وصغاراً.
وقال لـ”العربية.نت”: عندما نسمع أصوات الرصاص ودوِّي المدافع والقصف المدفعي نسارع للاختباء تحت الأسِرّة خوفاً من الدانات العشوائية والرصاص الطائش، كما ينبغي أن نتحاشى غالباً الجلوس أو النوم خارج الغرف.
وتؤكد سميرة أحمد، التي فرّت قبل شهرين من حي ود نوباوي بوسط مدينة أم درمان، الذي يشهد معارك شبه يومية بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، أنها تنوي العودة إلى أم درمان.
وذكرت السيدة الخمسينية لـ”العربية.نت” أنها استأجرت منزلاً مع أفراد أسرتها بإيجار مرتفع لمدة شهرين بمدينة مدني بوسط السودان – تبعد 181 كلم تقريبًا في الاتجاه الجنوبي للخرطوم – على أمل أن تكون الحرب قد انتهت في هذه الفترة، إلا أن توقعاتها خابت، وباتت عاجزة مادياً عن الإيفاء بالتزاماتها المالية.
لكن لم يعد بمقدورها العودة إلى منزلها، ليس فقط بسبب ما تعرَّض له من سرقة، فالحي الذي يقع فيه، يشهد عمليات عسكرية ومعارك مستمرة تجعل من العودة إليه أمراً صعباً في الوقت الحالي، وتؤكد أن البديل العودة إلى ضاحية الثورة بالطرف الغربي لمدينة أم درمان أسوةً بمواطني حيّها السكني العريق الذين لجأوا إليها للابتعاد عن دائرة الخطر.
إلى ذلك، اتخذت بعض الولايات قرار بدء العام الدراسي ذريعةً لإخلاء مباني المدارس من النازحين الفارين من جحيم الحرب بالخرطوم الذين اتخذوها مراكز إيواء.
وشهد الأسبوع الماضي أحداث عنف بالقضارف أثناء إخلاء الشرطة مركز إيواء بالقوة الجبرية وأسفرت الأحداث المأساوية في مصرع طفل ووقوع إصابات مختلفة وسط النازحين.
وعلى ذات النّسق، أجبرت السلطات بولاية نهر النيل النازحين الفارين من جحيم الحرب بالخرطوم على إخلاء المدارس بحجة بدء العام الدارسي.
وتؤكد منظمة الهجرة الدولية أنّ “4.8 مليون شخص فروا من الصراع، بينهم 3.8 مليون نازح داخليًا وأكثر من مليون عبروا الحدود إلى البلدان المجاورة للسودان”.
وأشارت إلى أنّ أكبر عدد من النازحين داخليًا فروا من العاصمة الخرطوم، التي هرب منها 2.7 مليون شخص بما يعادل 75% من مجموع النازحين.