جريدة مصرية : دمار وتصعيد.. «السودان» في مرمى التقسيم مجددًا (ملف خاص)
دمار وتصعيد.. «السودان» في مرمى التقسيم مجددًا (ملف خاص)
خبراء: الأزمة تحتاج لتوافق القوى السياسية حول مشروع وطنى محدد الملامح للفترة الانتقالية
مع انشغال العالم بالحرب على قطاع غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال، هناك جريمة أخرى لا تقل عنها بشاعة، من نهب وسلب وقتل وتنكيل، هذا هو الوضع في السودان الآن، الذي يشهد جرائم يعاقب عليها القانون الدولى ولا يقبلها السلوك الإنسانى، إذ أكد عدد من الخبراء والباحثين السياسيين أن سيناريو التقسيم لا يزال شاخصًا في ظل تراجع سيطرة الجيش على المدن والولايات، موضحين أن الأزمة السودانية تحتاج إلى توافق القوى السياسية حول مشروع وطنى يحدد ملامح دقيقة للفترة الانتقالية ويلبى متطلبات الانتخابات التشريعية، لافتين إلى أن السودان بين خيارين كلاهما مر، التقسيم الثانى أو الحرب الأهلية الشاملة والفوضى.
فمنذ السبت الماضى بدأت قوات الدعم السريع بمهاجمة مدينة «ود مدنى»، عاصمة ولاية الجزيرة التي تتميز بموقعها الاستراتيجى، وتعد أكبر مصدر غذائى واقتصادى في السودان، ومنذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش النظامى، بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو، في 15 إبريل الماضى، تحولت مدينة «ود مدنى»، الواقعة على بعد 180 كيلو مترا جنوب الخرطوم، إلى ملاذ لآلاف النازحين، وبعد يومين من المعارك تفاجأ الأهالى بانسحاب الفرقة الأولى مشاة من مقرها، ودخول قوات الدعم السريع إلى المدينة.
ومع إعلان الدعم السريع سيطرته على المدينة، وبيان الجيش بانسحاب قواته، بدت حالة الاستنكار في الشارع السودانى، صارت حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعى، وطرح الناشطون العديد من التساؤلات، لماذا يسمح بدخول قوات الدعم السريع للمدينة؟ مع العلم أن جميع تحركات هذه القوات معلومة للجيش؟.
وتداول مقاطع فيديو لدخول قوات الدعم السريع إلى المدينة وقيامهم بتخريبها والنهب والقتل، واتهمهم البعض بخطف الأطفال، واغتصاب النساء، فيما اضطر البعض للنزوح.
وقبل أيام أعلن مجلس الأمن الدولى أن الحرب التي اندلعت في السودان، في 15 إبريل الماضى، أدت إلى نزوح 7.1 مليون شخص، واصفة إياها بـ«أكبر أزمة نزوح في العالم»، وبالإضافة إلى السبعة ملايين نازح داخليا، أفادت الأمم المتحدة الخميس بأن 1.5 مليون آخرين فروا إلى الدول المجاورة، وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، فر ما يصل إلى 300 ألف شخص من ود مدنى بولاية الجزيرة، في موجة نزوح جديدة على نطاق واسع.
وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف»، أن أكثر من 150 ألف طفل نزحوا في غضون أيام من ولاية الجزيرة، وانقطعت عنهم المساعدات الإنسانية العاجلة جراء تصاعد العنف هناك.
وأعرب مجلس الأمن الدولى، في بيان له، عن قلقه إزاء انتشار العنف في السودان، وندد المجلس بقوة الهجمات ضد المدنيين في مناطق تستضيف أعدادا كبيرة من النازحين وحذر برنامج الأغذية العالمى من أن خطر نقص الغذاء يهدد أكثر من نصف سكان السودان.
ووفق تقديرات منظمة «مشروع بيانات مواقع الصراعات المسلحة وأحداثها» (أكليد)، فقد أودت الحرب في السودن بحياة أكثر من 12190 شخصًا.
أكد الباحث السياسى السودانى، عثمان ميرغنى، أن سيناريو التقسيم لا يزال شاخصًا في ظل تراجع سيطرة الجيش على المدن والولايات، ولكنه فشل في وصول القوى السياسية والخارجية إلى اتفاق سلام ينهى الحرب ويكف تداعياتها، مؤكدا على أن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة «ود مدنى» نقطة تحول فارقة في الأزمة السودانية، وقد تؤدى إلى مزيد من العمليات القتالية من جانب قوات الدعم السريع، في محاولة لاحتلال مزيد من المدن السودانية، خاصة بعد تصريح حميدتى، عبر حسابه على موقع تويتر، حيث تحدث عن حكومة تأسيسية، وهذا يشكل خطرًا على وحدة السودان، ويمهد الطريق لحرب أهلية شاملة بين المجموعات المختلفة في السودان.
وأضاف لـ«المصرى اليوم» أن المقاومة الشعبية سلاح ذو حدين، والطريقة المتبعة حاليا فيها من الحماس العاطفى أكثر من العقلانية، لأن الحروب ليست مجرد حشود مسلحة، بل قوة عسكرية منظمة ومنضبطة تعمل وفق تكتيك عسكرى، لافتا إلى أنه من الأفضل وضع المتطوعين تحت تصرف الجيش مباشرة بلا أي تشكيلات عسكرية خارجية، وعلى الجيش التخطيط للاستفادة من المتطوعين وفق خططه.
وأشار إلى أن هناك مشكلة حقيقية في التعامل بين الدعم السريع والمواطنين في كل المناطق التي سيطرت عليها لارتكابها الكثير من الجرائم ضد الإنسانية، وهو ما رصدته الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن هذه الجرائم لن تمكنه من ممارسة إدارة حقيقية للبلاد، لكنها قد تستطيع فرض سطوة عسكرية تجعل من السهولة إمكانية انفجار الأحوال بصورة كاملة، لتصبح ولايات خارج سيطرة الدعم السريع أو الجيش السودانى، وهنا يبدأ سيناريو تجزئة السودان.
باحث سياسى: البرهان يعانى من خطط تقوية موقف الدعم السريع وإضعاف شرعية الحكومة
وقال محمد تورشين، الباحث السودانى بمركز الجزيرة للدراسات لاستراتيجية، إن الأزمة السودانية تحتاج إلى توافق القوى السياسية حول مشروع وطنى يحدد ملامح دقيقة للفترة الانتقالية، ويلبى متطلبات الانتخابات التشريعية، كمرحلة أولى يجب أن تتم تنحية القادة العسكريين وقادة الدعم السريع ليمكن دمج الجيوش في الجيش السودانى وإجراء إصلاحات جذرية وهيكلية شاملة في مؤسسات الدولة السودانية، وإذا لم تتوافق القوى السياسية والقيادات على هذه الخطوات، فمن الصعب جدًا أن يكون هناك تغير حقيقى، وستكون كل الحلول المطروحة مؤقتة، ولن تستقر الأوضاع، مما قد يؤدى إلى انفجار الأوضاع في وقت ما بالمستقبل، كما حدث في الخامس عشر من إبريل.
من جانبه يقول الدكتور وليد عتلم، الباحث في الشأن الإفريقى، إن السودان بين خيارين كلاهما مر، التقسيم الثانى، أو الحرب الأهلية الشاملة والفوضى، خاصة في ضوء تصاعد وتيرة التعبئة والتعبئة المضادة القبلية والعرقية، فالحروب الداخلية عادة ما تستدعى التدخلات الخارجية، سواء من الفاعلين من الدول، أو الفاعلين الجدد من غير الدول والجماعات المسلحة، أو شركات الأمن على شاكلة فاجنر الروسية، والساحة السودانية وما نشهده من تطور الأوضاع ميدانيا يؤكد ذلك كله.
وأضاف: للمرة الأولى تكون العاصمة السودانية الخرطوم مسرحًا للعمليات والاقتتال الداخلى، أغلب النزاعات الداخلية التي يشهدها السودان منذ استقلاله كانت تدور رحاها في الأطراف والمناطق الريفية، سواء في الجنوب أو دارفور أو شرق السودان، الآن الوضع معكوس، تسيطر قوات الدعم السريع على معظم مناطق العاصمة الخرطوم وأجزاء كبيرة من دارفور، حيث لم يتبق أمام «الدعم السريع» سوى مدينة الفاشر، عاصمة الإقليم وأكبر مدنه، وتضم قاعدة عسكرية جوية رئيسية محاذية للمطار المدنى لتكون دارفور تحت السيطرة الكاملة لقوات الدعم السريع، في المقابل الجيش السودانى النظامى، اضطر إلى الانتقال إلى منطقة آمنة نسبيًا في بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، وهى تمثل أهمية استراتيجية عسكريا وسياسيا بالنسبة للبرهان، ليس فقط بسبب مينائها الذي تصل عبره مختلف الإمدادات اللوجستية والعسكرية، ولا مطارها الدولى، بل أيضاً بعدما تحولت إلى مقر مؤقت لقيادة الدولة، كما أنها مثلت متنفسا للبرهان الذي تمكن من التحرك بحرية إلى الخارج، وتمثيل بلاده في المحافل الدولية، وبالتالى اكتساب اعتراف دولى بشرعيته، ما أزعج حميدتى، وهدد بإعلان حكومة موازية من الخرطوم.
وأكد لـ«المصرى اليوم»: هنا بدأت ملامح وإرهاصات تقسيم واقعى على الأرض في السودان، حيث يسيطر الجيش على الشرق والشمال الشرقى، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على معظم مناطق العاصمة وغرب البلاد، ويدعم ذلك السيناريو استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة ود مدنى الاستراتيجية في ولاية الجزيرة.
وتابع على مستوى التدخل والدعم الدولى والإقليمى، فإن مجلس السيادة السودانى، بقيادة البرهان، يعانى من سعى كثير من الدول الإفريقية المحيطة، مثل إثيوبيا وكينيا، إلى تقوية موقف الدعم السريع، وإضعاف شرعية حكومة البرهان، كما ظهر في اجتماع قمة الإيجاد الذي عقد في إثيوبيا، إضافة إلى دور فاغنر الروسية الداعم لحميدتى، هنا تحول السودان إلى ملعب رئيسى للتنافس الدولى، خاصة روسيا التي تسعى لنقل ساحة هذا التنافس من الملعب الأوكرانى إلى القارة الإفريقية، تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في إفريقيا عبر التركيز على تقديم نفسها كبديل استراتيجى مناسب للنفوذ الغربى، وتحديداً الفرنسى، ولنا في انقلابات غرب إفريقيا خير نموذج ودليل.
ويرى عتلم أن الغاية النهائية لهذا التنافس الغربى ليس فقط التنافس على القيادة العالمية، لكن الأهم النفاذ والهيمنة على الثروات الإفريقية، والسودان همزة وصل رئيسية للنفاذ إلى تلك الثروات، على سبيل المثال تسعى روسيا إلى إنشاء قاعدة بحرية لوجستية للبحرية الروسية في السودان، والتى تتيح إمكانية الوصول المباشر إلى جمهورية إفريقيا الوسطى غير الساحلية ومنطقة الصحراء والساحل، حيث تعمل شركات التعدين الروسية، وهو الأمر الذي تسبب في إزعاج كبير لواشنطن، التي ترى في الوجود الروسى تهديدا مباشرا لأمن البحر الأحمر، وبالتالى فإن وجود قاعدة روسية في السودان دفعها إلى التحرك من أجل قطع الطريق على ذلك، وقد بدأت باستقدام قوات تدخل سريع وقوات خاصة إلى جيبوتى.
وأشار إلى أن السودان كذلك شأنها شأن غالبية دول القارة، أغنى دول من حيث الثروات وأفقر شعوب، السودان تحتل المرتبة 15 من حيث إنتاج الذهب في العالم، والثالث في إفريقيا، وتمتلك احتياطات نفطية تقترب من الــ 7 مليارات برميل، إلى جانب مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى، كما أنها مهيأة لأن تكون سلة غذاء العالم لوفرة الأراضى الصالحة للزراعة، خاصة على مستوى المحاصيل الرئيسية التي ارتفعت أسعارها جراء الحرب الروسية- الأوكرانية، والتى تتجاوز مساحتها الـ 200 مليون فدان، إلى جانب وفرة الاحتياطات النفطية والتعدينية، هناك أهمية إضافية للسودان، وهى أنها من الدول الإفريقية التي تمتلك بنية تحتية وخطوط أنابيب وموانئ قادرة على نقل كميات النفط والمعادن إلى الأسواق العالمية، وبالتالى السودان رقم مهم في معادلة أسعار النفط والمعادن العالمية، ما يجعل لعاب القوى الكبرى يسيل أمام تلك الثروة غير المستغلة نتيجة التناحر الداخلى.
ونتيجة للاقتتال الدائر والممتد، فإن البنى التحتية العامة شهدت ضررًا بالغًا أكثر من (70٪ من المستشفيات في مناطق القتال خارج الخدمة) والمساعدات الدولية غير كافية وتواجه صعوبات وعلى المستوى الاقتصادى، أدى الصراع إلى انكماش كبير في الناتج المحلى الإجمالى في عام 2023، ولم يسلم منه أي قطاع، وأول المتضررين كانت الصناعة، التي يتركز معظم نشاطها في ولاية الخرطوم، حيث يدور معظم القتال، وأدى تدمير رأس المال المادى والمعدات والبنية التحتية (النقل والمبانى وخطوط الأنابيب) والقتال الدائر حولها إلى إعاقة الإنتاج ونقل البضائع، ونتيجة لذلك انخفض استخراج النفط وتكريره بشكل كبير، وكذلك الحال بالنسبة لتعدين الذهب، كما تكبدت الخدمات (التجارة والجملة والتجزئة) والزراعة، وهما القطاعان الرئيسيان في البلاد، خسائر فادحة نتيجة لانعدام الأمن الشديد والنهب وعدم القدرة على الوصول إلى الأسواق والمدخلات والتمويل. وأدى نقص السيولة وانهيار العملة إلى عرقلة المعاملات التجارية، ونتيجة لذلك انهارت صادرات البلاد (الفول السودانى والزيت والقطن والصمغ العربى والماشية).
من جانبه، قال محجوب الجزولى عزالعرب، قيادى بحركة العدل والمساواة السودانية، إن المشهد الآن يمثل حالة من الفوضى، حيث تقوم ميليشيات الدعم السريع بعمليات عنف وتخريب، وتستعين بمرتزقة من بعض الدول المجاورة، وتحصل على دعم مالى وعسكرى، وأسفرت تلك القوات عن انتشار الفساد الواسع في عدة ولايات في البلاد، بدءًا من العاصمة الخرطوم وانتهاءً بولاية الجزيرة، حتى ولايات دارفور، التي عانت خلال القرنين الماضيين، لم تسلم من آثار هذا العنف.
وأضاف، لـ«المصرى اليوم»، أن هناك خسائر فادحة في أرواح المدنيين، فضلًا عن النهب والسرقة والاستيلاء على الممتلكات الشخصية وتشريد المواطنين، بالإضافة إلى ذلك، هناك تخريب ونهب للأسواق وتدمير للبنية التحتية والخدمات.
وتابع: «ليس لدى هذه الميليشيات أي مشروع حكم واضح، بل إنها تتبنى مشروعًا وهميًّا يُعرف باسم (قِحت)، وهناك أحزاب وجماعات استغلالية تستهدف أمن المواطنين واستقرار الدولة، هدفها الوحيد هو استعادة السلطة التي فقدتها بسبب الثورة، رغم فشلها في إدارة شعارات ثورة ديسمبر، والآن ترغب في تحقيق هذه الأهداف باستخدام عناصر الميليشيات العشوائية، على حساب إرادة الشعب».
الوضع تحول إلى ملعب رئيسى تتنافس فيه دول على الفوز بالثروات غير المستغلة
وأوضح: «على الجانب الآخر، تعمل الأحزاب الوطنية والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا مع الجيش السودانى على الحفاظ على استقرار الدولة وحماية مكتسبات الأمة، وعلى الرغم من مواقف العالم غير الواضحة، يسعون لإنقاذ البلاد من الانهيار والخروج من هذه الحرب بأقل قدر ممكن من التضحيات».
وعن السيناريوهات المحتملة، قال «الجزولى»: «هناك سيناريو أول، وهو القضاء على الميليشيات في أقرب وقت ممكن، ولكن بشرط أن يدعم العالم الدولة السودانية، ومن المصلحة العامة ألّا يفقد السودان استقراره عن طريق تمكين الميليشيات وصمت دول العالم.
أما السيناريو الآخر فيتضمن التفاوض في منصة جدة، أو أي منصة عادلة ومحايدة، ولكن بشروط معلنة من قِبَل الحكومة، وهى عبور الميليشيات من منازل المواطنين والمستشفيات ومناطق أخرى، وهذا يحتاج إلى ضغط ووساطة على الميليشيات للالتزام بما تم الاتفاق عليه، وهو اتفاق إنسانى وليس سياسيًّا نظرًا لأن الميليشيات في هذا الصراع ليس لديها برنامج سياسى، بل المسألة تتعلق بالاندماج والتصريحات التي أشعلت الحرب من خلال المعروف بالاتفاق الإطارى المؤذى».