جعفر عباس :لا عشاء للميتين ولا عزاء للأحياء
اليوم آخر جمعة في رمضان الجاري، ويسميها البعض الجمعة اليتيمة وهي تسمية ليس لها أصل في الشرع، وجرت العادة على ان تقوم فيه معظم العائلات السودانية بإعداد طعام (عادة فتة بالخبز والرز ومرق اللحم) ويسمون ذلك “عشاء الميتين”، ويعتبرونه صدقة على أرواح موتاهم. وكنا في صبانا في جزيرة بدين نطوف نهار ذلك اليوم في جماعات ونحن نهتف: ديورين أشاقا (عشاء الموتى)/ آنجورين قداقا (غداء الأحياء)، أما عيال المدن فقد كانوا يغنون خلال الطواف “الحارة ما مرقت / ست الدوكة ما مرقت/ كبريتة كبريتة ست الدوكة عفريتة/ ليمونة ليمونة ست الدوكة مجنونة”/ قشايه قشايه ست الدوكة نسايا/ الحارة حارتنا وست الدوكه طردتنا/ الحارة حارتنا وست الدوكه طردتنا/ وبالمفراكه سكّتنا.
وكنا نتجاهل البيوت التي لم تكن إمكانات أهلها تسمح بالسخاء في تقديم اللحم ونركز على بيوت البرجوازيين من الموتى، وبالتالي كان هناك في تصنيفنا موتى خمس نجوم نحرص على زيارة بيوت ذويهم ونحن موقنون بأنهم سيقدمون لنا وجبة “عليها القيمة”، وموتى “نجمة واحدة” لم نكن نرى ان هناك ما يبرر دخول بيوتهم. وكانت خالتنا مسكة كنة تقدم أفضل الطعام في ذلك اليوم بحكم ان ابنها شيخ موسى أكليش كان ميسور الحال، وكنت وشقيقي محجوب نحظى برعاية خاصة من مسكة رحمها الله فتخصنا بقطع لحم طيبة بعيدا عن بقية الشماسة.
بوجه عام لم نكن نعرف اللحم في بدين إلا يومي السوق (الاثنين والخميس)، وكان المعسرون يطبخون الطعام بالمشروم، ذلك الفطر الذي تجده حاليا فقط في المطاعم الراقية، ويسمى باللغة النوبية «كجن قور» أي «علف الحمير». وكان ينمو طفيليا على حواف الجداول في المزارع، وكان الناس يقدمونه طعاما للبهائم.
في عيد الفطر كان من عادة أهلنا زيارة قبور الأقارب فجر يوم العيد ووضع التمر والحلوى والكعك قرب شواهد القبور وكنا في الأيام الأخيرة من رمضان نقوم بمسح المقابر وتحديد قبور الموتى ذوي النجوم الخمس لأننا كنا نجد فيها حلوى وكعكا مميزا بينما قبور ناس قريعتي يكون على شواهدها تمر فقط (غالبا جاو وهو أردأ أنواع التمور).
ثم ها نحن اليوم في حال يتساقط فيه الموتى هنا وهناك بأيدي أشخاص نزع الله من قلوبهم الرحمة، ولا مجال لعشاء للموتى ولا غداء للأحياء، واللهم الطف بعموم أهلنا وأرفع عن ارض الجزيرة بطش الدعامة الذين جعلوا الدم الأحمر يطغى على خضرتها التي كانت تزهو بها منذ مائة سنة.
المصدر : تسامح نيوز