إسحق أحمد فضل الله يكتب:(إحياء عازر)..عن إعادة السودان إلى السودان
متابعة:الرؤية نيوز
أحد الدُعامة ينطلق إلى أهله في كردفان بالعربة التي نهبها من بيت في الخرطوم… وأبوه المسلم الضكران يكاد يقتله وهو يصرخ:
ـ نهبت حق الناس وجيت فرحان؟؟
والأب يتصل هاتفياً بصاحب العربة، الذي وجد رقمه في مفكرة بداخلها، ويعرض عليه إعادة عربته إليه.
وأطول دقيقة صمت في اللقاء كانت دقيقة صمت صاحب العربة…
بعدها يقول، وكأنه يجاذب أنفاسه من تحت الأحجار:
ـ افتح الطبلون… سوف تجد فيه شهادات وجوازات. الشهادات الخمس هي لأولادي الخمس: للذي كان في الجامعة، وللذي كان يتجه إليها، وللذي كان في حضن أمه، و… وأنت تريد إعادة العربة لي، لكن هل أحمل الشهادات هذه إلى قبورهم؟ إن كنت أجد لهم قبورًا.
إعادة الخرطوم لما كانت عليه… شيء مثل إعادة العربة هذه وما تعنيه.
لكن…
صورة الخرطوم القديمة التي ماتت من الهرم والعجز نستعيدها حتى نرى صورة العجز.
العجز… ماذا كان؟ ولماذا كان؟ والخطأ… ما كان؟ ولماذا؟
الخرطوم حتى السبعينات كانت صورة الحماس المطلق… والعجز المطلق… والانتحار الذي هو حصيلة المعادلة.
أبو ذكرى… انتحار.
وقالوا: شيبون… انتحار.
ومعاوية نور… فقد عقله ومات في الخلوة.
وقالوا: الجنيد.
وقالوا: فلان صديق وزميل عبد الله الطيب.
وهؤلاء كانوا يدمنون كتابات الانتحار العالمي وفقدان معنى الحياة عند “كبارهم”.
ولما قام أضخم مفكر فرنسي بخنق زوجته، أمر الرئيس الفرنسي بإيداعه مستشفى عمومي وقال:
ـ كيف نضع عقل فرنسا في مستشفى المجانين؟
لكن من تشبعوا بخيبة عقول المفكرين في الأرض كانوا يقرأون للكتاب والمفكرين مثل:
همنجواي، فرجينيا وولف، سومرست موم، كافكا، وسيل الشيوعيين: ماياكوفسكي، والياباني فوكوشيما (الذي، بحماس مثل حماس السودانيين، حين طلب من الجيش أن يستلم الحكم، ورفض الجيش، غرس خنجره في بطنه وشقها حتى الجانب الأيمن، ثم من أعلى حتى أسفل)، ثم كيسلر، ثم…
ولما كانت الخيبة العربية واسعة فقد كان هناك انتحارات بيروت أيام الحرب، وانتحارات القاهرة… ومن يحصيهم؟ كاتب سيرة أبو ذكرى لا ينتهي.
كانوا كلهم مخلصين… يفشلون في إيجاد حل للعجز… والكساح الذي يجعل العالم العربي كلبًا محطّم الساقين في جانب طريق الأسفلت.
هذه هي صورة الخرطوم حتى السبعينات.
والجذور التي نبت منها العجز هذا هي:
أسماء المثقفين والقادة… تسعة أعشارها كانت أسماء أهل اللسان.
شيوخ يحتكرون إسلامًا ليس هو الإسلام… والنتيجة بالطبع: العجز.
ومثقفون محدثون يكرعون الفلسفات والأدب والفكر الحديث… ويطلبون من الفكر هذا صناعة الحضارة مثل أوروبا.
ويفشلون… يفشلون لأن من صنع حضارة أوروبا لم يكن هو الشعر ولا الفلسفة.
لتأتي المعضلة…
المعضلة التي كانت: المثقفون المزدحمون بالشعر، لا هم يستطيعون صناعة الدولة بالشعر، ولا هم يستطيعون الابتعاد أو العودة إلى الصفر.
المعضلة هذه ذاتها نعيد رسمها حتى لا نعيد فعلها.
(٢)
والآن… الفكر المستبد الأعمى الذي كان يقود أهل السودان… لا وجود له.
والساسة المحنطون الذين كانوا يركبون جهل الناس – إلى درجة أن بعض الناس يهبون أولادهم للسيد – لا وجود لهم.
والقادة الانقلابيون الذين يحكمون بطريقة: اقرأ يا ولد… لا وجود لهم.
(والحكاية أن العمدة ومن معه كانوا في الصلاة، والإمام كان هو خادم العمدة القارئ للمصحف… وامرأة تمر بهم وتنظر ثم تقول مستنكرة:
ـ يا يمة… العمدة فلان ذاته يصلي ورا الولد؟؟
والعمدة الذي “ينتفخ” والذي لا يحفظ الفاتحة، يجذب الولد ويقف إمامًا، ثم يقول:
ـ اقرأ يا ولد…).
النوع هذا من القيادات لا يوجد الآن.
والركام… ركام السودان بفعل الحرب، يمكن تحويله إلى فرصة أعظم، تزيح العوائق كلها عن طريقنا.