حسين خوجلي: لا تقرأ هذه الحكاية
لا يختلف اثنان مهما تواضعت معرفتهما بأصول الحياة بأن الحضر السوداني والمدن ومواقع التأثير السيادي والحضاري والاقتصادي، الموزع بين غرب السودان وشماله وجنوبه وشرقه كانت تمتاز بعبقرية مفتوحة من الغباء والسذاجة والخضوع الرتيب للحياة اليومية دون تدبر أو برنامج أو استشراف.
وهذا ما دفع اعداءهم أن يقتحموا عليهم الديار ويحرقوا كل تجربتهم في التنمية والتعليم والصحة والمؤسسات العامة والخاصة التي شيدوها بعرقهم ودموعهم وكفاحهم عبر عشرات السنوات.
لم يجدوا في مرابضهم مجرد عصا دعك من بندقية لترد الغزاة واللصوص والأوباش وسارقي الحياة، فكان حلهم الوحيد أن يهرب أغلبهم بملابسه الداخلية وأعراضه ويتجه صوب الخلاء والمجهول. بحيث أصبحت لكل اسرة سودانية مأساة تُحكى ومصيبة تُروى.
وقد ذكرتني حالتنا هذه ونحن في منافي بلادنا ومنافي الاخرين حكاية سودانية فهي رغم طرافتها تدعو للتدبر والحزن والمماثلة بين الحالين:
قال الشاهد أن الشيخ العالم مجذوب جلال الدين عليه الرحمة والد أشعر شعراء العرب المعاصرين محمد المهدي المجذوب، وهو ايضا كان شاعرا وكان بحرا في علوم الفقه والتفسير والأدب والنحو وعموم علوم اللغة. كان يمتاز بالسخرية والمُلح والطرائف التي يسير بخبرها الركبان رغم جديته وحزمه ورصانته العلمية. وكانت له حصة محضورة بالمعهد العلمي بأمدرمان وكان حينما يأتي لتدريسها يلحظ أن هنالك طالباً صفيقاً ومتنمرا يخرج من وسط الفصل دون استئذان ويقف امام زملائه ويلقي خطبة، ويكررها بين كل حصة وأخرى وبالرغم من فجاجتها فإنه لا يجد تنبيها من أحد أو تحذير.
وفي إحدى الأيام صدمت كلماته أذن الشيخ المرهفة المضادة للجهل والأخطاء فوقف متسمراً في نافذة الفصل وسمع الخطبة كاملة وعندما دخل عليه الرحمة أمر الطالب بالوقوف وقال معلقا: (خطاءٌ لحّان جاهل ومتعدي على الدين واللغة وخطيبُ دهماء، بيد أنك وجدت الفصل غابةً من الرياحين) ضج الفصل بفاصل من الضحك المتوالي الذي انتصر لصمتهم وجبنهم الذي دام طويلاً، فالتصقت جملة الهجاء بالطالب حتى تخرجه والتصقت بالفصل مفردة غابة الرياحين القاسية. وهي لعمري حكاية تصلح أن نطلقها على أنفسنا وعلى اعداءنا الغزاة مع إضافة مفردة لصٌ وتدميري وعميل وخائنٌ وناكرُ احسانٍ ومجرم. وما كان لهذه النكبة أن تحدث لولا أنهم وجدوا نيالا والخرطوم ومدني وسنجة غابة من الرياحين.
حسين خوجلي