الصادق أحمد الرزيقي يكتب: قور .. تشبث بموتك..لا تضع سراجاً على قبرك
متابعة:الرؤية نيوز
رحل عن هذه الفانية، الأخ الحبيب البروفيسور أبو القاسم قور حامد، أحد نجباء البلاد ورمز من رموزها العلمية والمعرفية والثقافية والصحفية، تاركاً الدنيا وما فيها، مخلفاً وراء رحيله فاجعة كبيرة لا يجف معها دمع المآقي، فالموت يفنى كل خليل، حمل رحله وزاده من الأعمال الصالحات وطوى بردته الناصعة وغاب. دهم رحيله الفؤاد وأدمى القلب وغوّر جرحاً لا يندمل.
لا شيء يملأ مكانه في حياتنا، وأنه روح وعلم وفياح دنيا، لمع كالشهاب ثم توارى سريعاً، راسماً سيرة لا تضاهى، وكفاحاً في سبيل العلم والحياة، صيّره مثالاً المثابرة والسعي والجد والاجتهاد من مهده إلى لحده، حيث كان الفتى القادم من ديار المسيرية منذ وطأت أقدامه المدينة العاصمة يجول بأحلامه وآماله وآلامه، ثم يعتلي هاماتها ونفسه معلقة بالثريا حتى مات.
عرفت الراحل أبو القاسم قور قبل أربعين عاماً، عندما زارنا في مدينة نيالا في مطالع العام 1986م، شاباً غض الإهاب نحيلاً وطويلاً كالرمح الأشهب، كان قد تخرج لتوه أو كاد من معهد الموسيقي والمسرح آنذاك في قسم النقد، وكنا نحن قد أنهينا الدراسة الثانوية نتطلع لخطواتنا القادمة، ونيالا يومها كانت تضج بالفنون والآداب والثقافة والفكر تتلاطم فيها أمواج السياسة وغلوائها. تحلقنا حوله ثلة صغيرة من الطلاب وكان يقيم ضيفاً في منزل الأخ الكريم عبد العزيز فضل المولى بحي الجمهورية، لتتحول أيامنا بلياليها إلى منتدى للفكر والآداب والفلسفة والثقافة والسياسة وحكايات وأقاصيص لا تنتهي، كان الأخ الفقيد قور منشغلاً بقضايا الفنون وتأصيلها، ونظرة الدين للفن وآفاق مناهج الدعوة الإسلامية التي تعالج هذه الأقضية المختلف حولها.
ولم تمض إلا أشهر قلائل حتى إلتقيته للمرة الثانية في قلب الخرطوم شارع الجمهورية، وأنا أدلف إلى مقر صحيفة (ألوان) الغراء لنجده في معية صاحبها الأستاذ الكبير والرمز الباذخ الشموخ حسين خوجلى، كان قور من أعمدة الصحيفة، يتأبط حقيبته الملأى بالكتب والأوراق والأقلام والمقالات، يحملها على كتفه ملقية على ظهره على طريقة المبدعين السودانيين من الفنانين التشكيليين والرسامين، يجلس في صالة التحرير ضاحكاً تارة ومجادلاً بقوة تارة أخرى، لكنته البقارية القحة يسخر بها من الدنيا والناس ومن يتنافسوها، كان فصيحاً في منطقه مدهشاً في إشتقاقته العربية بطريقته الجامحة، ومبيناً بإنجليزيته العتيدة المتقنة، شديد الاعتداد بمنبته وأهله وكان في تلك الأيام كتب مقالاً شهيراً عنوانه خلف دوياً هائلاً بعنوان: (المسيرية يرحلون سراً ..) ولكم أشاد الأستاذ حسين خوجلي بالمقال وفاخر به، وظل الأستاذ حسين في جدال مستمر مع قور في الفلسفة والسياسة والمسائل الفكرية المعقدة وتلك كانت من أمتع الصفحات غير المقروءة في ألوان الثمانينات والجميع في شرخ الشباب، وكان قور بطبعه عنيداً مشاكساً متمرداً على كل شيء، ويومها تلتمع الصحيفة بنجومها الزواهر محمد محجوب هارون والراحل فتح الرحمن القاضي ومحمد عوض البارودي والشاعر علي يس وعادل الباز وعبد الإله أبو سن ونوال قاسم والشهيد علي السنجك وشمس الدين يونس وحسن أدروب وصلاح التوم من الله وآخرين، وكنا نحن صغار الصحفيين المبتدئين من النظارة والمتفرجين المحظوظين الأكثر اعجاباً بهذا الفتى النحيل المثقف الراكل الدنيا بكلتا قدميه.
ربطتني بقور أخوة صادقة زادها البعد الجغرافي والإنتماء للبادية وقطاع البقارة العريض، المسيرية والرزيقات أبناء عمومة، لدينا حكايات وقصص ونوادر وأمثال مشتركة ومعجم لغوي محلي ننثره كما نشاء في ذاك الفضاء البديع، كان معيناً لي في تجربتي الصحفية مع بداياتها وأنا أكاد أشك مسرباً في الدرب الوعر.
من تلك الفترة توثقت علاقتي به امتدت ولم تنقطع أبداً، كان ودوداً متدفقاً، له عديد الأصدقاء والأحباب، عميق النظر، واسع الإطلاع، تتجلى مواهبه واهتماماته في مجالات متعددة سخرها كلها من أجل العلم والتحصيل الأكاديمي، ومع مجيء الإنقاذ، اتخذ مكانه في المجال الأكاديمي، حتى نال درجة الدكتوراة والأستاذية وزار عديد الجامعات الأمريكية والأوروبية والأفريقية، ولم ينس أبداً البيئة التي جاء منها التي كانت أحوج ما تكون لثقافة السلام التي جعل منها همه الأكبر والأرأس في الحياة، فكان من مؤسسي معهد دراسات السلام وأستاذ زائر في جامعات العالم الفسيح في هذا المجال، وبلغ شأواً في العلم كبيراً وعالياً.
لم ينقطع عن الكتابة الصحفية، وكان يعرف تأثيرها، وهو الذي شجع شقيقه الأصغر الصحفي والكاتب النابه محمد قور، كان يحنو على شقيقه الأصغر محمد، وتلك واحدة من خلائقه الباهرة.
في قضايا الوطن ظل منافحاً عنه في المجالات الحقوقية وأمام المنظمات والهيئات الدولية، تراه فارساً في المؤتمرات وساحات النزال الحقوقي والسياسي في جنيف ولندن ونيويورك وافريقيا، وشارك أيام هجمة المحكمة الجنائية الدولية على البلاد في تنظيم مؤتمرات علمية أفريقية وأوربية في أديس أبابا وبريتوريا وداكار، له شبكة علاقات واسعة حول العالم مع أساتذة جامعات مرموقين وحقوقيين بارزين سخر كل هذه العلاقات ووظفها لمصلحة البلاد، ولم ينقطع أو يغيب عنه أبداً همه الأول هو مجتمع البادية وأهله وواقع القبائل التي أوقعها قدرها على حافة النار عند الحدود الملتهبة في مناطق بحر العرب والميرم وأبيي وعلى طول الحدود مع جنوب السودان، أو التي تتلظى بشواظ الصراع القبلي. وأنتج في ذلك كتب ودراسات ومحاضرات ودورات تدريبية واستشارات، وترك إرثاً ضخماً في المفوضية القومية لحقوق الإنسان التي كانت عضواً فيها، وفوق ذلك ترك عملاً صالحاً لن ينقطع أبداً.
رحمه الله رحمة واسعة وأحسن فيه العزاء، وجعل البركة في أبنائه وأسرته الصغيرة وأهله جميعاً، فقد عاش حياة مليئة دافقة بالعطاء له عند الله الجزاء الأوفى والأجر الحسن.
لا حول ولا قوة إلا بالله
الصادق أحمد الرزيقي