حسين خوجلي يكتب..حكاية في بريد أولاد غرب السودان
متابعة:الرؤية نيوز
حكى لي أحد الأصدقاء أن جدته من والدته تجاوزت الآن التسعين من عمرها، ولكنها بفضل الله ما زالت طازجة الذهن والجسد، تتذكر كل صغيرة وكبيرة مرت عليها منذ طفولتها إلى يوم الناس هذا، وما زالت تصلي قائمة وتأكل مما تطبخ وتقرأ ما افترضته على نفسها من القرآن فجراً من مصحفها دون (نظارة)، وحادة السمع والبصر كما يقول أهلنا في الوسط تعبيراً عن صحة العجائز: (تنضم الإبرة).
ولأنها من رفاعة، مدينة المعرفة وتعليم المرأة، فقد تخرجت من كلية المعلمات معلمة محبة لمهنتها ومتبحرة في أصولها، عملت في بداية تجربتها المهنية بكردفان ودارفور ردحاً من الزمان، وجابت أغلب مدارسها في المدن والبوادي، درست في الأبيض والفاشر والجنينة. وقد أحبت أهل غرب السودان وأحبوها، وتعرفت على أسرهم من كل الأجيال ومن كل الأصقاع والقبائل، وكانت تواصلهم ويواصلونها في الأفراح والأتراح. وما زال منزلنا بأم درمان لا يكاد يخلو من زجاجات السمن البلدي الأصلي وعبوات الدخن والقنقليز والقضيم ومراكيب (الفاشري) الملونة المجودة (Handmade).
وبكثرة تداخلها مع الجغرافيا والتاريخ والناس، فقد اكتسبت لغتهم وطرائفهم وعاداتهم السمحة وأغنياتهم الحانية، ولا زلت أذكر عندما أدخل عليها إلى اليوم أجدها تردد في حب وبصوت طليق رغم وطأة العمر: “طالت بيك المدة وغنّت ليك أم قجة، الزول أب سن فضة مالو السلام ما بردا”.
كانت جدتي المدرسة لا تحب الحديث في السياسة، ولكنها اضطرت إليها اضطراراً بعد النكبة الأخيرة، خاصة وأنها أصرت أن لا تغادر بيتها بأم درمان. قالت لنا بصرامة ونحن نلح عليها بالهجرة والمغادرة حفاظاً على سلامتها، لكنها ردت علينا بحزم: “أمشوا عافية منكم، كان جيتوا لقيتوني حيّة الحمد لله، وكانت متة عظامي بتلقى ليها شبر في أحمد شرفي”. ولكن الله عز وجل قد حفظها، لم يمسسها سوء مع ابنتها وأحفادها، رغم أن الدانات كانت تدوي فوق رؤوسهم ليل نهار.
بالأمس القريب طلبت مني أن أحكي لها بالتفصيل ما حدث من مذابح واغتصابات وجرائم في غرب السودان الذي أحبته، وتسلل بل سكن في عقلها وقلبها وبصرها وبصيرتها. حكيت لها بالتفصيل عن ما دار في الجنينة، وعن النساء اللواتي اغتصبن في شراهة، والرجال الذين قتل بعضهم ممزقاً برصاص الحقد ودُفن البقية أحياء. حدثتها عن نيالا الجميلة التي تحولت إلى حطام، وزالنجي التي استحالت إلى خراب، والضعين التي تحولت إلى سجن كبير ومغارة للمسروقات، والفاشر التي صار تعريفها بين كل جثة وجثة جثة، وبين كل مرابط ومرابط مرابط، وبين كل شهيد وشهيد شهيد. وما زالت جميع الأوفياء الشجعان يتدافعون عليها حمايةً لها ضد الأوباش، فلم تعد الفاشر رمزاً للسودان وحده بل رمزاً لكل البشرية المحبة للحق والخير والسلام.
حدثتها عن الأبيض الصابرة، والمدافع الغادرة، والمسيرات الأجنبية تدك مدارسها ومشافيها، ولا يغادرها أحد، لأن أهلها من النساء الحرائر والرجال الأحرار يعتقدون بقسم غليظ أن مغادرة الأبيض هو ذات التولي يوم الزحف، وهو من الكبائر.
وعندما أنهيت حكايتي الجنائزية المؤلمة لما حدث في مدينة النهود من استباحة وسرقات وتصفيات، دخلت جدتي، التي ظلت طيلة فترة الحكاية التراجيدية صامتة، في نوبة من البكاء والنحيب والنشيج، والتوصيف المناحي والمراثي التي كانت تحفظها عن ظهر قلب. وبعد أن هدأت ثورة تمزقها وتلاشيها النفسي، اقتنصت تعليقها الأخير والذي أفلت من بين دموعها الغزار وأنفاسها الحرّى، فقد كان أصدق من كل تفسير وتعليق وتحليل وبيان، قالت والحزن يمزقها: “كرّ علي يا أحمد… الغرابة ما كلمو؟”
وهنا انتهت جلستي الحارقة مع جدتي، ولم تنتهِ الحكاية بعد.